الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٢٣ صباحاً

«تعـز» قيمة لا جغرافيا

نبيل البكيري
الأحد ، ٠٢ أغسطس ٢٠١٥ الساعة ١١:١٥ صباحاً
مدينة يمنية في أقصى جنوبه الغربي، مدينة ضاربة في جذور التاريخ منذ تأسيسها على يد الصليحيين في النصف الأول من القرن الهجري السادس، واتُخذت عاصمة للرسوليين والأيوبيين بعد ذلك، كما اتُخذت عاصمة مؤقتة لآخر دويلات الزيدية السياسية في منتصف القرن الماضي، والتي أنهت هذه المدينة حكم هذه السلالة بثورة 26 سبتمبر 1962م وإلى الأبد.

كانت ولا زالت المدينة صانعة الأحداث والسياسات والثورات في التاريخ اليمني القديم والمعاصر والحديث؛ كونها مدينة يغلب على سكانها الطابع والسلوك المدني والنزوع نحو التطور والتمدن بشكل غير طبيعي يصل حد النزق.

لن أتحدث هنا عن تاريخ المدينة بقدر ما سأتحدث عنها بمنظور اجتماعي “سوسيولوجي” عن هذه المدينة التي تذيب عصبيات ساكنيها القادمين من كل أصقاع اليمن وتستبدلهم بعصبية “التمدن”: لماذا يتخلى ساكن المدينة عن كل شيء ويندمج سريعًا مع تفاصيل هذه المدينة وعاداتها وتقاليدها؟ ما هي الدوافع التي تحيل هؤلاء القادمين من قبائل ومناطق شتى على أن يتخلوا عن كل تلك العصبيات لتحل عصبية المدنية التعزية بديلًا لها؟

تعز مدينة يتنافس أبناؤها حول ثلاثة أشياء: التجارة والسياسة والدراسة، وهي ثلاثية مرتبطة بعضها ببعض بشكل كبير، يجمع بينها قاسم مشترك هو الثقافة والمعرفة والإبداع، والسعي نحو التفوق في كل هذه المجلات التي المدخل إليها جميعًا هو التحصيل العلمي المهني والدراسي.

ففي الأول: التجارة، أو العمل، تجدها محور ارتكاز ومدخلًا مهمًا للاستقرار في هذه المدينة التي تقدس العمل والكسب الحلال على كل شيء آخر. ولذا؛ يصبح العمل بصيغته المهنية أو التجارية مطلبًا ملحًا للقادم أو الوافد الجديد لهذه المدينة، لا يجد شيئًا يمكنه من كسب ود هذه المدينة سوى مدخل العمل والكسب الحلال الذي يغدو هدفًا مقدسًا لأي مقيم في هذه المدينة التي تقدس العمل.

لذا؛ قلما تجد أحدًا من سكان هذه المدينة بدون حرفة أو مهنة يجيدها، بل ما يدهشك أن جُلّ أبناء هذه المدينة، حتى المتعلمون منهم، من يجيد أكثر من مهنة؛ وهذا الجانب بالذات هو الشيء الوحيد الذي ظلت هذه المدينة محافظة عليه كآخر متعلقات الذات اليمنية القديمة التي كانت تقدس العمل، تلك الذات التي تم تحطيمها بقدوم الهادوية الزيدية، التي حولت مجتمع شمال اليمن من مجتمع زراعي حرفي إلى مجتمع قتالي متفيد يتخذ من الحروب مصدرًا وحيدًا للرزاق.

فيما ظلت هذه المدينة، كآخر حواضر اليمن التاريخية، ممسكة بأخص خصوصيات الذات اليمنية المقدسة وهو العمل والإبداع، بكل صنوفه وأشكاله؛ وهذه هي الصفة التي تذيب وذابت فيها كل الهويات الأخرى، مهنية كانت أو جغرافية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية. ولذا؛ تجد منسوب ومستويات التعايش في أوساط أبناء هذه المدينة شيئًا يفوق التنظير وتجلياته الإبستملوجية إلى ممارسة تفوق الخيال.

ففي ذات مرة، كنت في أحد شوارعها فلمحت رجلًا بسحنة ليست يمنية خالصة، والمثير بالنسبة لي والغريب أنه يعمل بائعًا للشاي على عربته البسيطة والمتواضعة؛ فطلبت كوبًا من الشاي وجلست إلى جواره مستغلًا فراغه بالحديث إليه، وبعد أن استأنس بعضنا ببعض، قلت له من أين أنت يا صديقي؛ فاندهش الرجل من سؤال ربما لم يسمعه على الإطلاق في هذه المدينة، فقلت له ما لك يا رجل.

فقال لي هل تصدق أنك ربما أول شخص يفاجئني بمثل هذا السؤال، منذ أكثر من 35 عامًا وأنا أقيم في هذه المدينة ولم يسألني أحد من أين أنا؛ فقلت له “معقول”، فقال نعم “معقول”؛ هنا الناس كل مشغول بعمله ولا يجدون وقتًا للسؤال عن الأصل والفصل والمنطقة والقبيلة والمذهب.

وبالفعل هذا الذي حدث لي مع هذا الرجل في تعز، ولولا اختلاف ملامحه التي أثارت فيّ فضول السؤال لما سألته. وبالفعل؛ طلع الرجل “عمانيًا” قدم إلى هذه المدنية بأسرته منذ أكثر من ثلاثة عقود واستقر فيها مواطنًا صالحًا، عاكفًا على عمله وتربية أسرته.

قصة أخرى حدثت لي مع الخبير والمحلل العسكري الأردني الشهير فايز الدويري: في لقاء لي معه صدفة في الدوحة سلمت عليه وأخبرته أنني يمني، فقال لي أنت من تعز، قلت له نعم وما أدراك بتعز، قال لي تعز هذه المدينة التي لن أنسى فضلها عليّ ما حييت؛ قضيت فيها أجمل أيام عمري في نهاية سبعينيات القرن الماضي في مهمة عسكرية هناك وأنا في مقتبل الشباب.

وأضاف قائلًا: بهذه المدينة عرفت ذاتي؛ حيث كانت هذه المدينة من أهدتني كل هذا الذي أنا فيه؛ ففيها أول كتاب قرأته معرفيًا في مكتبة الطليعة، وهو قصة البؤساء لفكتور هيجو، وكتاب تاريخ الأدب العربي لكارل بركلمان، وكل الروايات العالمية قرأتها في هذه المدينة وأصبحت مدمنًا على القراءة بفضل هذه المدينة.

ما أريد قوله هنا: إن هذه المدينة اليوم هي خليط من كل اليمنيين الذين استبدلوا كل هوياتهم الضيقة بهوية تعز اليمنية التي لا تؤمن بالمناطق والمذاهب والقبائل والعشائر، وإن قيمة الإنسان في هذه المدينة بما يجيد وينتج وينفع الناس، لا بما يملك أو ينتمي إليه من جغرافيا أو مذهب أو عشيرة أو قبيلة.

تعز حاضرة الإنسان اليمني الأول الذي قهر الطبيعة وكيفها مع ذاته وقيمه وسلوكه الإنساني، تعز فاتحة الثورة والنضال والتاريخ، مدينة تختصر تاريخًا طويلًا من التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية، وتختصر قصية بحث اليمني الدائم عن الاستقرار والدولة والنظام والقانون.

تعز قصة هوية اليمنيين، التي غابت فيها كل انتماءاتهم وهوياتهم الصغيرة لتحضر هويتهم الكبيرة كمجتمع إنساني كبير يسوده الأمن والاستقرار والعيش المشترك، والعمل كقيمة عليا مقدسة.

لذا؛ لم يكن تاريخ تعز المعاصر سوى سلسلة ثورات وكفاح لأبناء هذه المدينة بحثًا عن الدولة والنظام والقانون، شمالًا وجنوبًا؛ فنجحوا جنوبًا في تأسيس دولة ضمت في طياتها أكثر من 37 مشيخة وسلطنة، كما نجحوا شمالًا في إسقاط أطول حكم سلالي كهنوتي عرفته اليمن، وهو حكم الإمامة الزيدية الكهنوتية التي قدمت تعز أعز أبطالها للتخلص منه؛ وهاهي اليوم تقود من جديد كفاح اليمنيين نحو الدولة واستكمال ما بدأته في منتصف خمسينيات القرن الماضي.

"التقرير"