الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:١١ مساءً

لجوهرة والفحّام ..عبقرية الشعب اليمني!

خالد الرويشان
الثلاثاء ، ٠٩ فبراير ٢٠١٦ الساعة ٠١:٣٣ مساءً
عندما تأملتُ صفحاتِ هذا الكتاب النادر, وإعجازَ أسلوبه, وذكاء َ مؤلفه, حمدتُ لصديقي الأعزّ والأجمل المحقّق والباحث الأستاذ محمد بن محمد العرشي اختيارَهُ, وغبِطتُ حماسَهُ وإنجازَه.
ولعلّي –وأنا أتأمّل هذه الصفحات- أدركتُ وشائج القربى بين المؤلف والمحقّق.. أو بين عباقرة اليمن عبْر حِقَبٍ مختلفة, ومحققنا الباحث عن جواهر الرجال, وكنوز التراث. فالأستاذ محمد العرشي ممتلئٌ بتاريخ بلاده, عاشقٌ حتى الثمالة لأبطالها في الإبداع والفكر, والأدب, والسياسة, وهو يعيش تاريخ بلاده, وإنجازات أبنائها عبر التاريخ لدرجة العشق والولَه, حتى لكأنّ التاريخ قابع بين جوانحه, وكأن الأبطال قد نبتوا بين ضلوعه, وترعرعوا على ضوء قلبه, وعزائم روحه. ولولا ضوء هذا القلب, وعزائم هذه الروح, لما كانت هذه الصفحات المستحيلة من كتاب "برهان البرهان" قد بُسِطت أمام ناظريك أيها القارئ العزيز.
لم تكن إنجازات اليمنيين وإبداعاتهم تاريخيا , محصورةً في علوم الدين والفقه, والآداب والفنون, والتاريخ فحسب, بل تجاوزَت ذلك إلى علوم الطب, والكيمياء والزراعة, والأعشاب والجبر والحساب والأقدار والموازين, وكان ذلك نتيجة جغرافية بلادهم اليمن بالدرجة الأولى, وتضاريسها شديدة التنوّع, وهو ما أفضى إلى تنوعٍ خلاّق في طرائق البناء والمعمار, وتخطيط المدن والأسواق, والحصون, وتنظيم أعمال الريّ والسدود, وإنشاء المدرّجات الزراعية على سفوح وذرى الجبال حتى صارت هذه النظم أمثالا سائرةً بين العامّة من اليمنيين, وغَدَت شعرا تتوارثه الأجيال, وتتغنى به الأيام والعهود.
إن من يتأمّل تخطيط وبناء مدنٍ كصنعاء القديمة, وشبام حضرموت, وزبيد على سبيل المثال, سيدرك ضوءَ ما أشرنا إليه, أما إذا أضاف إلى تأمّله العشرات من مواقع السدود القديمة وقنواتها في مضايق الجبال ووديانها, والمئات من الحصون, والقلاع, والجسور, والآلاف من المدرجات الزراعية, فسيتأكد أن ثمّة هندسةّ وفنّا, وحسابا وأقدارا, ودقّةً وقياسا, ومواقيت وأوزانا وراء كل إبداعات الإنسان اليمني في هذه البقعة من العالم, والتي كأنها سُرّةُ الأرض وسِرُّها, بين محيطين عن شمالها وجنوبها: محيط من الرمال ومحيط من الماء!
ولأن علوم الحساب والجبر, والأقدار والموازين, قد غدت حياةً ونظاما في ذهن المؤلف العبقري"برهان الدين" وعصره, فقد رتّب قوانينها, ونظّم معادلاتها, حروفا وكلماتٍ وأعمدةً رأسيّةً وأفقية, بفرَادةٍ عبقريّة عجيبة, سيعجَبُ لها الطالبُ, ويحتار فيها غير المتخصّص, ويُسحَرُ بها الدّارسُ الفاهم, والجهبذ العالم.
في مقدمته الباذخة للكتاب, يُثبت الأستاذ المحقق جدّية اهتمامه وتأملاته لتاريخ "العلوم" العربي, وعباقرته النادرين في علوم الجبر, والفيزياء, والحساب, والكيمياء, والفلك والحركة, ويقدّم لنا خلاصاتٍ بديعةً لإنجازاتهم الباهرة, توطئةً ووصولا إلى عصر مؤلف هذا الكتاب الشيّق, برهان الدين ابراهيم بن عمر البجلي. والأرجح أن القارئ وقد استفاد من هذه الخلاصات, سينتهي مروٌّعا حائرا ومتسائلا: كيف لأمةٍ أنجبت عباقرةً بهذا الحجم والقدر أن تبوء في عصورها المتأخرة بالتخلف والجهل.. ولماذا لم تستمر النهضة العلمية العربية, وتتوالد أجيالا, وعصورا, و لتتنامى بعد ذلك ضوءً في حياة الأمة, وعقلها, وقلبها؟
وسيتساءل القارئ بحرقةٍ حارقة.. لماذا لم يطلق العرب اسم ابن الهيثم أو ابن رشد مثلا على جامعةٍ عربية واحدة؟ بينما أطلق الغربيون اسميهماعلى كويكبين تم اكتشافهما مؤخرا في الفضاء الشاسع؟! بل وتم إطلاق اسم "ابن الهيثم" على إحدى الفجوات البركانية على سطح القمر!
أليس من العجب أن يحتفي الغرب بعلماء العرب من ابن الهيثم حتى أحمد زويل العالم المصري الذي حاز على نوبل في الكيمياء, بينما يجهل معظم العرب احمد زويل وإنجازاته العلمية.. وإن عرفه يشنّ حربا عليه لأسباب خاصة أو لمصلحةٍ ذاتية أو حتى سياسية كما حدث خلال السنتين الماضيتين؟!
في اليمن القضية أكثر مأساوية! ففي حين أن هذا البلد كان المنجم الأهم, والمنبع الأكبر-عبر ألفي سنةٍ على الأقل- لسيلٍ من الرجال صنعوا أجمل وأروع صفحات الأمة بدءً من الفتوحات الكبرى التي غيّرت العالم القديم كله, وصولا إلى إنجازات الحضارة العربية في بلاد الشام, ومصر والمغرب العربي, وكان الأندلس العربي ذروة نجاحهم عبر حِقَبِهِ الطويلة الممتدّة من قيادة موسى بن نصير, والسمح بن مالك الخولاني, والغافقي مرورا بالإنجازات عبر أفضل عهوده, وانحدارا صوب ملوك الطوائف "اليمنيين" المنقسمين فإن اليمن هنا في الجزيرة العربية, وخلال ذلك كله, أو في معظم ذلك كله انكفأ منشغلا بصراعاته السياسية التي غلبت على معظم فترات تاريخه.
ويلفت النظر والتأمل أن هذا الصراع الغالب على معظم فترات التاريخ اليمني, لم يُجْهِز تماما على حيوية اليمن واليمنيين, فهذا البلد الولّاد, شديدُ الحركة كثيرُها, وكأنه نتاج طبيعته البركانية الثائرة دوما! قدّم لأمّته العربية والإسلامية في أكثر العصور انحطاطا أفضل علماء الأمة قاطبة, من أمثال ابن الأمير, و الشوكاني, والمقبلي, والسلمي الوصابي, والزبيدي, وعشرات غيرهم, وذلك بدءً من فجر القرن السابع عشر الميلادي وحتى تخوم القرن التاسع عشر. . وهي الفترة التي رَزَحَ العالم العربي فيها تحت أثقال الظلام, والجهل, والانحطاط أكثر من غيرها من الفترات المظلمة, بينما كان الضوء يشتعل نورا في نفس الفترة في اليمن بسلسلةِ مشاعل أضاءت عالم العرب والإسلام وما تزال.
إن معظم إنجازات اليمنيين لا علاقة للدولة بها! إلّا قليلا! وإذا كان هناك تأثيرٌ حقيقي فهو للوقف الخاص. أما إنجازات اليمنيين الأكبر والأجمل عبر تاريخهم في العمارة وطرائق البناء, والتخطيط, والمدرجات الزراعية, والقلاع والحصون, والقرى والأسواق, والصناعات, والرِّيّ, وغيرها, فإن كل ذلك, من بنات أفكار أفراد الشعب وجماعاته,.. ولو كانت الدولة اليمنية مستقرةً في معظم فترات التاريخ, لصنع الشعب اليمني المعجزات, لكنّ غلَبَةَ الأثرة, وقهر الأئمة, والسلاطين, والحكام, وحتى بعض الرؤساء في زماننا لأبناء الشعب , كل ذلك قتل المواهب, ووأد أحلام التغيير, ومنع الضوء والمعرفة, واستغل التناقضات الاجتماعية- وأيُّ مجتمعٍ في الدنيا بلا تناقضات؟- ليشعل المشاعر المتخلفة, والدعوات العصبية, وكان هذا باستمرار ديدنَ معظم حكام اليمن, وعبر عصورٍ طويلة وحتى عصرنا الراهن!
لذلك, لا يعرف اليمنيون تاريخهم! إلا شواهد من تاريخهم الأقدم قبل أربعة آلاف عام!
أما الجواهر من الرجال الأفذاذ, المطمورة بالنسيان, المغمورة بالغياب عبر عصور مختلفة, فإن الشعب لا يعرف عنها شيئا, فهو مشغولٌ بصراع ضباع السياسة, وقرود المطامع وبيع الأوطان, حتّى تفكّه البعض قائلا: إنها لعنة سيف بن ذي يزن! الذي استعان بالفرس لطرد الأحباش من اليمن, فإذا بالبلاد تقع فريسة الفرس أنفسهم! وليبدأ الملك الشاب الصراع مع المحتل الجديد! وهكذا هم اليمنيون في أزمان الانحطاط المتعددة. يبحثون عن قبس ضوءٍ من الأبعد, وينسون أنفسهم.. ينسون شموسهم الكبيرة في داخلهم, وبين جنباتهم, ويطفئون أقمارهم العظيمة في أرواحهم! ويغرقون في الظلام وتغرق البلاد معهم!
تغيب الشموس وسط عواصف الغبار, وتنطفئ الأقمار وسط غيومٍ وهمومٍ ونسيان!
وما الشموس والأقمار إلّا عباقرة البلاد وأفذاذها.. وصاحِبُ هذا الكتاب واحدٌ من هؤلاء الذين غيّبهم غبار الحكام, ورماد صراعاتهم, ليظهر اليوم وبعد ما يقرب من ستمائة عام! على يد أحد أبناء اليمن الرائعين.. محمد بن محمد العرشي.

إنني أظلُّ مبهورا بهمّة الصديق الباحث والمحقّق الأستاذ محمد العرشي, مسحورا بإنجازاته الفريدة خلال السنوات القليلة الماضية, وخاصّة بعد إنجاز التحفة البديعة "كتاب الإعلان", وهو الإنجاز التراثي الأهم في اليمن خلال سنوات طويلة, وأحسب أن هذا الكتاب "برهان البرهان" مع سابِقِهِ "الإعلان" يشكلان توأماً فريداً ونادراً في إبداع أمّة العرب وآدابها, لكنهما قبل ذلك وبعده, قلادتان على صدر المحقّق, عاشقِ وطنه, والراهب العنيد في محراب التاريخ والإبداع اليمني: محمد العرشي, الذي يُعرِّشُ دوماً, ويطير بنا بأجنحةِ عزمه, ومهماز حزمه, صوب أفقٍ يراه, وذروةٍ تومئُ إليه,.. إنها اليمن في أحسن تجلياتها, وأرقى إبداعات إنسانها.. اليمن المغمور بصخب أبنائه, وضجيج أزمانه! المطمور بأتربة الصراعات وجهل الحكّام وحمقهم,.. لكن اليمن يبقى هنا بين دفّتي كتاب, أو في جذوة نور في صدر عالمٍ أو محقق, وعلى ذروةِ قريةٍ وحيدةٍ حالمةٍ غافية بين السحب, وفي خفقة قلبٍ رائعٍ نادر كقلب صديقي الأعزّ, إنسانِ عينِ زمانه, ووردةِ حدائقِ إقحوانه.. المشغوف بوطنه, الملهوف على إ
(تقديم كتاب برهان البرهان )