الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٤٥ مساءً

عن إعادة تفكيك الإرهاب

نبيل البكيري
الثلاثاء ، ١٧ مايو ٢٠١٦ الساعة ١٢:٢٥ مساءً
لم تخضع ظاهرة من الظواهر المعاصرة للتسطيح و التدليس والتسيس و التنميط و الاستخدام كما خضعت لها ما باتت تعرف بظاهرة الإرهاب اليوم، هذه الحالة التي رغم شدة وضوحها، لكنها ظلت في قوالب و أنماط محددة لا يمكن الخروج عنها، تلك القوالب والأنماط والأسماء التي حددها ووضعها لها المخرج الأول والتي أراد حصر استخدامها في يديه فقط دون غيره.

الغرب و أدواته المختلفة إعلامية و بحثية و مخابراتية و توجهاته السياسية، هو المخرج الوحيد وصاحب الامتياز الحصري في تعريف و استخدام هذه الظاهرة التي بدأ يفقد سيطرته عليها، كلما حاول الاستمرار في استخدامها بعيدا عن التطورات المحيطة والمتسارعة، التي تمر بها المجتمعات البشرية من وعي يتراكم وينعكس على كل مساحات التفكير الواسعة.

فعلى مدى عقدين من الزمن و المخيال الغربي الرسمي يعتقد أنه بإمكانه الاحتفاظ بالوصفة السحرية لصناعة ظاهرة العنف، فمثلما فعل مع ما بات يعرف بتنظيم القاعدة التي احتكر حتى حق تسميتها بالقاعدة ، وهو ما يفعل نفسه الآن مع ظاهرة ما باتت تعرف بــ” داعش” وغيرها من الظواهر ذات الارتباط بظاهرة العنف عموماً، إلا أنه بات الأمر أكثر انكشافا من أي وقت مضى فيما يتعلق بالأجندات الخفية لهذه الظاهرة.

فكلنا يعرف البدايات الأولى لتشكل ظاهرة ما كان يطلق عليها بالجهاد الأفغاني و الأفغان العرب، وكيف تم توظيف هاتين الظاهرتين في معركة الغرب مع الإمبراطورية السوفيتية حينها ، ونعرف قبلها أيضاً كيف تم استخدام مصطلح الإرهاب وإطلاقه على كل من كان يحاول مقاومة القوى الاستعمارية في ليبيا و الجزائر والمغرب العربي والسودان وجنوب اليمن، وكل المناطق التي شهدت قتالاً بين فصائل المقاومة الوطنية و القوى الاستعمارية حينها.

إننا أمام نمط واحد من التفكير في تعاطيه مع كل ما يتعلق بنا وبمجتمعاتنا، ذلك النمط من التفكير الذي يقدم نفسه كوصي علينا وأدرى بمصالحنا منا، وأقدر فهماً لأنفسنا منا، و أدرى لنا بمصالحنا من مفاسدنا، هذا النمط من التفكير الذي يحاول اليوم الوصاية مجدداً عن المنطقة و مقدراتها و تاريخها ونضالها و ثوراتها وثرواتها، وأكثر فهماً لتفاصيل التفاصيل عنا و يفكر أيضاً بالنيابة عنا لحل مشاكلنا.

ومع هذا كله، يتجنب هذه النمط من التفكير الذي انغرس بقوة في أذهان كثير من حكوماتنا و مسؤلينا ومثقفينا، و أكاديميينا، النظر المجرد إلى الأشياء بعيداً عن النمطية المعتادة في نظرتها لظاهرة العنف التي يتعاطون معها كقضية أمنية عسكرية بحته مقطوعة الصلة بالإشكال السياسي والاقتصادي والتنموي والتعليمي الذي تعانيه المنطقة و دولها و مؤسساتها على مدى عقود حتى اللحظة.

إن ظاهرة العنف وفقاً لهذا المخيال، ليست سوى إشكال أمني بحت وينبغي أن يظل التعاطي معها في هذا الإطار دون الذهاب إلى الأسباب الحقيقة المنتجة لها، بمعزل عن كل سياقاتها السياسية و الاقتصادية و تكون هنا النتيجة والسبب شيء واحد، وهنا قمة الاستغباء للعقول و مناهجها في التفكير، حينما ينحصر التفكير بالبعد الجنائي للجريمة بمعزل عن أسبابها المنشأة لها، والتي يؤدي التفكير بهذه الطريقة إلى استدامة هذه الظاهرة و تنميتها بشكل أكثر فوضى من سابقتها كما هو الحال والفارق بين القاعدة وداعش.

إن ظاهرة العنف في العالم العربي كغيرها من بلاد الدنيا لا يزال الرافد الأكبر لها هو الاستبداد السياسي والقهر بكل صنوفه وإشكاله، وان استدامة المقاربة الأمنية لها ليس سوى تنمية للظاهرة ورعايتها بأدواتها المنتجة للظاهرة ذاتها، وأن المقاربة السياسية إلى حد كبير هي الطريق الأنجع في فهمها وحلحلتها، وفهمها فهماً عن قريب لمعرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة لنشأتها.

وفي هذا الصدد استوقفني كتاب صدر قبل عامين للمستشار البريطاني جوناثان بأول، وعنونه بـ الحديث مع الإرهابيين وكيفية إنهاء الصراعات المسلحة مع اعتراضي عن وصف من يتم الحديث معهم بالإرهابيين لان التسمية تنطلق من النمطية الغربية إياها التي تحتكر الحقيقة وتختصرها في رؤيتها و مقارباتها .

ومع هذا تبقى الفكرة جديرة بالتأمل و الاستفادة منها بالعمل عليها لأنها أقرب إلى تقديم مقاربة أولية للحوار المفتوح مع من يذهبون بإتجاه استخدام العنف كتعبير عن رفضهم لقضية ما حينما تنسد في وجوههم طرق الحل و التعبير عنه، وهي جزء من الحقيقة التي تصاحب أي ظاهرة عنفيه، تنشأ هنا أو هناك.

ومن هنا نلاحظ الإصرار الغربي الأمريكي تحديداً في رفض هذه الطريقة في مقاربة ظاهرة العنف وهو ما لاحظناه بوضوح قبل عامين من الآن حينما قام حوار وطني ضم فيه كل الأطراف السياسية الفاعلة في اليمن بما فيها جماعة عنف كالحوثية وحينما تسرب بعض الأخبار عن رغبة بعض الأطراف المحسوبة على القاعدة في اليمن بالدخول في هذه الحوار، فكان الرد الصادم والمتوقع أيضاً هو رد السفارة الامريكية حينها بالرفض الشديد لهذا الطلب وكان رداً صارماً وحازما أغلق الباب تماماً أمام هذه الجماعة في الانخراط في الحوار الوطني.

فيما في المقابل رحب الأمريكان بشدة بانضمام جماعة الحوثي الشيعية المسلحة والمتمردة لانضمامها لهذا الحوار الذي كانت قد سبقت وأعلنت رفضها للمبادرة الخليجية التي بموجبها جاء الحوار الوطني، مما يضع عدد من علامات الاستفهام حول نمطية التصنيف المسبق للأمريكان للأرهاب المسموح وغير المسموح، بمعني كل عنف يأتي من قبل المكون سني فهو إرهاب مهما كان سببه ومسبباته فيما على الجانب الأخر إذا جاء العنف من الطرف الشيعي فهو عنف مبرر ومسموح كما هو الحال في تعاطي الغرب مع أي ظاهرة عنفيه تحدث حتى في الغرب ذاته.

بتنا اليوم أمام ضرورة حتمية لإعادة قراءة الظاهرة العنفية وتفكيكها بعيداً عن أي نمطية غربية مسبقة بل وفقاً لرؤيتنا ومشاكلنا الخاصة التي تقتضي سحب بساط تجار العنف و مخرجيه و المستفيدين منه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هذا دعوة نضعها أمام الكتاب والباحثين ومراكز الدراسة بالابتعاد قدر الإمكان عن القوالب الجامدة لتوصيف ظواهرنا ومشاكلنا والبحث عن حلول من صلب هذه المشاكل ومعالجتها وفقا لرؤيتنا.


"إيوان24"