الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:١٣ مساءً

حمل الأمانة تكليف لا طوعا

عبدالرحمن محمد أحمد الحطامي
الاربعاء ، ٢٣ اكتوبر ٢٠١٣ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
لما عرض الله سبحانه على السموات والأرض والجبال حمل الأمانة كما حكى ذلك في قوله عز وجل ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) لا يفهم من السياق أن حمل الأمانة ليس تكليفا واجبا أجبر الله الإنسان على حملها ! بل السياق يؤكد وبقوة وجوب حمل الإنسان للأمانة من عدة وجوه : 1- المفهوم الصحيح للأمانة وهو استخلاف الله لهذا الإنسان كونه خلقه الله من روحه وبيده وأراده على الأرض يسكنها ليعمرها بعبادته ويتخلق بأخلاقه . قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) وقال سبحانه ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) فا الأيات تشير بوضوح إلى إرادة الله لهذا الإنسان أن يكون خليفته على أرضه ليمثل الأنموذج السوي في حمل أمانة الله وهي عبادته على النحو الذي يريده سبحانه وتعالى لا كما فعلت الجن الذين سكنوا الأرض فأساءوا وفسدوا وتمردوا على الله فسلط عليهم ملائكته فقتلتهم وطاردتهم حتى ألجأتهم إلى سكنى البحار والجبال ولم تقم لهم قائمة واستبدل بهم هذا الإنسان بتكوينه الطيني المنسجم مع ذات الأرض ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) أفيخلق الله خلقا بيده وينفخ فيه من روحه ويسكنه الأرض ويشرع له الشرائع ويجعل منه الرسل والأنبياء ويحمل هذه الأمانة طوعا لا كرها ؟! هذا لعمري لا يستقيم ! .

2- لا يفهم من سياق الآيات أن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال للتخيير ويعدل بهذا التخيير من السموات إلى الأرض إلى الجبال ! فما يصح عقلا أن يعرض علام الغيوب شيئا على خلق من خلقه وقد سبق لديه في العلم المكنون عدم قبول هذا المخلوق لهذا العرض ، وأكبر من ذلك تكرار هذا العرض على الأرض والجبال ليكون الرد كما سبق من السموات !! وإذا ليس هذا العرض للتخيير كما أنه ليس كذلك للإلزام والإجبار وإلا ما أبت السموات وإن ثقل عليها وتحملت الأمانة والله يعينها ! . وهنا السؤال الذي يفرض نفسه : من أي نوع هذا العرض ؟ وإذا كان هذا العرض ليس إلزاما وإكراها وليس للتخيير فما هو إذا ؟ والجواب والله أعلم أن هذا العرض عرض بيان ، أي أن مؤهلات ومعايير ومواصفات حمل هذه الأمانة لا تستوفيها السموات التي يبرز الطهر والعلو والسمو كأبرز متطلبات حمل الأمانة ولهذا عدل عنها إلى غيرها وهي الأرض التي تطوي بين جنباتها من الشموخ والإرتفاع والقوة والصلابة ما يكون عاملا مساعدا جدا لحمل هذه الأمانة وأدائها على الوجه المطلوب ، إلا أن القوة والصلابة والإرتفاع مع افتقار السهولة والبساطة والليونة والتنوع والتعدد لا يساعد في تحقيق أهداف الرسالة التي يريدها الله سبحانه ، وإذا من خلال هذا العرض يتبين القصور لدى كل من السموات والأرض والجبال وبالتالي يصعب ويشق عليهن حمل الأمانة إذا حملتها إحداهن بمفردها ، فكان أن أظهر الله مافيهن من الصفات والمزايا التي تؤهلهن لحمل الأمانة لولا عجزهن جميعا فيما يفتقدنه من الصفات والأخلاق المستوفية لقدرتهن في حمل الأمانة ، ولهذا عبرت الآيات بأحسن الألفاظ الدالة على هذا المراد والله أعلم فقال ( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) والإباء هنا عدم توفر ما يساعدهن على أداء أمانتهن إذا حملنها .

3- قوله تعالى ( وحملها الإنسان ) أي قدرة الإنسان تكليفاعلى تحمل هذه الأمانة بما فيه من الضعف إلا أنه يمتلك الأداة التي أوجدها الله فيه لتساعده على حمل الأمانة وأدائها على الوجه الذي يرتضيه الله سبحانه ، هذه الأداة أو الملكة التي منحه الله إياها هي التي أسجد الله له الملائكة لأجلها ! إنها ملكة التعلم والقدرة على الحفظ والتعرف على الأشياء والتصور والخيال والربط والفهم والإستنتاج ، قال تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما لا تعلمون ) .

4- أما قوله تعالى ( إنه كان ظلوما جهولا ) لا يفهم منه أنه ظلوم لنفسه جهول حين لم تحمل السموات والأرض والجبال وبادرهو في حملها فما كان الله ليهب لهذا الظلوم الجهول أشرف وأجل وأزكى رسالة ووظيفة لمجرد أنه تعرض لها واستشرف وحاشا ربي أن يكون الأمر كذلك !! وإنما وصفه الله بهاتين الصفتين بعد تحمله هذه الأمانة لايضاح أن من أكبرمعوقات وعقبات أداء وحمل الأمانة هاتين الصفتين ( الجهل والظلم ) ولبيان أن نقيضهما وهو ( العلم والعدل )هما الصفتان والخصلتان اللتين بهما يحقق مراد الله على أرضه ويوفي ما عليه من تبعات وتكاليف هذه الأمانة الإلهية الربانية التي لأجلها خلق الله الخلق ولأجلها خلق الكون بما فيه وعليه وتحته .

5- مما يساعد الإنسان على أداء رسالته وحمل أمانته استغلال ما وهبه الله من العقل القادر على استخلاص العبر والمنافع والربط والفهم فينظر دارسا ومتأملا لدلالات ما في السموات من السمو والفلائك والنجوم والكواكب والشموس والقمر ويتخلق بما استطاع التخلق منها : كالسمو بنفسه عن سفاسف الأمور – أن يعمل ليكون نجما يهتدى به ويعمل مع غيره ليجعل منهم نجوما وكواكب – أن يكون كالشمس المحرقة للبكتيريا والجراثيم فيقوم بدوره في إحراق المنكرات وفضح وتعرية الفاسدين والمجرمين – وهكذا . وينظر إلى الأرض وإلى الجبال فيتعلم ويتخلق البساطة والقوة والصلابة والتنوع والتجدد وغير ذلك .

6- علل الله جل شأنه بعد ذلك فقال ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) أليس هذا تصريحا إن صح التعبير أن حمل الأمانة يوجب من الله التوبة على صاحبها لضعفه وتقصيره في أدائها ، فمهما اجتهد العباد والمخلصون والعلماء الربانيون وحتى المجاهدون وبذلوا جل أعمارهم لخدمة هذه الأمانة فلن يوفوها عند الله حقها لولا سعة رحمته التي وسعت كل شيء ، فالله يقبل من عباده على تقصيرهم ويغفرلهم ويرحمهم ، أما الذين لم يحملوا هذه الأمانة وهم المنافقون والمشركون رجالا ونساءا فإن الله توعدهم بالعذاب وعلل تعذيبهم بعدم الأخذ لهذه الأمانة وأداءها كما يحب ربنا ويرضى .

7- أما وقد تبين بوضوح أن حمل الأمانة واجبا تكليفيا مفروضا وليس طوعا ، بقي فقط معرفة مضامين هذه الأمانة إجمالا :

1- أمانة حمل هذا الدين وحمل الخلق عليه ترغيبا وترهيبا والدعوة إليه قال تعالى ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) ، قال تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .

2- العمل على تحكيمه وجعله منهاج حياة للناس يحتكمون إاليه ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ).

3- تربية الأجيال والناشئة على هذا الدين والعمل به وإنشاء المدارس والمعاهد العلمية التي تدرس علوم الدين ومقاصد الشريعة .

هذه بعض المضامين التي فتح الله لي بها والحمدلله رب العالمين .