الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:١٦ مساءً

كانت البداية في عمران.. فأين النهاية؟

مصطفى أحمد النعمان
الأحد ، ٢١ سبتمبر ٢٠١٤ الساعة ١٠:١٥ صباحاً
في 9 فبراير (شباط) 2014 كتبت في هذه المساحة مقالة بعنوان «أين سيتوقف الحوثيون؟»، وأستسمح القارئ في استرجاع فقرة منها «من المبكر الحكم على التأثيرات التي ستحدثها سيطرة الحوثيين على مناطق نفوذ (حاشد)، واقتراب حشودهم المنضبطة من أبواب العاصمة، لكني أكرر ما كتبته قبل أسبوعين أن الحوثيين يضعون خطوط إقليمهم الجغرافي والمذهبي دونما حاجة إلى نصائح بنعمر وتدخلاته المربكة ولا اجتهاداته، ومن دون انتظار لما تقرره لجنة الأقاليم، فالأول مشغول بملاحقة الرئيس السابق وحول الأمر إلى خصومة شخصية، والثانية تعمل في واقع مرتبك ولن تكون قادرة على تمرير ما قد يتوافق عليه أعضاؤها لأن الأوضاع على الأرض تفرض ملامحها بما يتواءم مع رغبات القوى المحلية في كل منطقة، وما صنعه الحوثيون خلال المرحلة الماضية دليل على هذا».


هل اختلف الأمر اليوم؟
لقد أدى سقوط آخر معسكر للجيش اليمني في عمران، قبل أسابيع قليلة على يد «أنصار الله - الحوثيين»، واستبدال عناصر تدين بولائها إلى القادمين من صعدة بالقوى القبلية المؤثرة هناك، إلى تشكل واقع على الأرض خطط له الحوثيون عن دراية بحقائق الأرض اليمنية واقتدار في استغلاله، في ظل غياب كامل للانسجام في قمة السلطة، وعندما انتزعوا المحافظة من سيطرة ما تبقى من سلطة ومن نفوذ «حزب الإصلاح» لم يعلنوا برنامجا سياسيا ولا أهدافا محددة، فبدت الحرب صراعا مذهبيا وإن غلفها «أنصار الله» بشعارات براقة مثل «التخلص من سطوة آل الأحمر» و«إعادة المنطقة إلى أهلها» و«تأمينها من العابثين»، لكني لن أنجر وراء حديث مفردات تحيل كل تقصير وسوء إلى الغير وتنفي عن المسؤول كل تخاذل وعدم تقدير للموقف.


لم يكن مفاجئا ما حدث في عمران وما بعدها، ومن السذاجة الحديث عن أن «أنصار الله» استغلوا قرارات حكومية لتحقيق مكاسب سياسية، فهذا عمل مشروع فعلته كل القوى المناوئة لهم في الماضي القريب.. ما كان مفاجئا للمتفائلين هو فقدان التوازن الذي سيطر على القوى السياسية المسترخية تحت مظلة السلطة وخروجها إلى العلن بصراخ وتنديد وتصريحات يناقض بعضها الآخر، لكن أقلها حصافة هو إبداء قلقها على سقوط «الدولة»، مما يثير سؤالا يستحق التفكير بعقلانية وبعيدا عن التوتر: من الذي أسقط قيمة الدولة عند المواطن وجعلها ثوبا ممزقا تتقاذف الرياح أجزاءه، وحولها إلى ساحة لاقتسام المناصب والمواقع وتجاهل كل قوانينها؟


مر أكثر من عامين على بدء العملية الانتقالية (21 فبراير 2012)، وكانت غاية الجهد الجاد والتوجه المثابر تكريس كل السلبيات التي رافقت حكم الرئيس السابق والتي تعرض من خلالها لانتقادات لاذعة واحتجاجات أجبرته على التنازل عن السلطة، ولم يتوقف استخدام الوظيفة العامة لشراء الولاءات وتوزيعها على المقربين حزبيا ومناطقيا، وعادت إلى الحياة دورة المال السياسي لتبديل المواقف، وكان طبيعيا تشابك المسارات واستمرار استخدام السلاح كوسيلة للمناطق القبلية لحسم خلافاتها، واتسعت دائرة الحروب. ومن السخرية أن الإعلان عن انتهاء لقاءات «الموفنبيك» كان بمثابة إشارة بائسة لانطلاق عملية مريبة لتدمير بقايا هياكل السلطة، وعوضا عن الانشغال بالسعي لتنفيذ ما قرره المنتجعون، الذين انطلقوا للبحث عن مكافأة لأدائهم وطاعتهم والتزامهم برفع اليد أو التصفيق حسب الحالة المعروضة.. انفجرت الحروب واتسعت رقعتها لتشمل كل «الأقاليم»، عدا المناطق التي يسيطر عليها «أنصار الله» الذين أنجزوا ما عجزت السلطة عنه، فأنهوا كل اقتتال شمال العاصمة حتى مركزهم المقدس الجديد في صعدة.


في مقابل كل هذا النزيف الدامي والدمار الهائل الذي حدث للنسيج الاجتماعي وتعميق الجروح التاريخية، أصرت القوى السياسية على التمسك بالخطأ الذي أراه المؤسس لهذه الحالة العبثية المتكررة، وهو «سلق» القرارات الفاصلة، وكان أخطرها على الإطلاق إعلان تقسيم البلاد عشوائيا. ولا يمكن لمن تابع الأسلوب الذي تم خلال التوقيع على وثيقتها إلا أن يدرك أن حصاد اليوم هو نتيجة التخبط والاستعجال.. حينها كان «أنصار الله» هم الفريق الوحيد المشارك الذي رفض التوقيع عليها، وهو عمل ذكي لأنهم لم يلتحقوا بركب من مهروا أسماءهم ثم اختبأوا خلف تحفظات يعلمون أنه لا أحد سيكترث بها، فالأثمان معروفة ومدفوعة سلفا.. كان ذلك المشهد معبرا عن أسلوب إدارة اللقاءات، ومبشرا بالطريقة التي سيتم بعدها التعامل مع بقية القضايا المصيرية التي كان لزاما تناولها بأسلوب مختلف تماما.

يتصور البعض اليوم أن الجهد الكبير الذي يبذله فريق صياغة الدستور هو المدخل لإنتاج يمن جديد، كما أوهم المشاركون في «الموفنبيك» الناس، ولكن لا يجب إهمال أن المسألة ليست نصوصا مثالية ولا نوايا حسنة ولا مراوغة وتحايلا، فالدستور في الجمهوريات العربية ليس أكثر من أوراق، يمكن للحاكم استخدام أرقام مواده ديباجة لقراراته حتى وإن كانت مخالفة للدستور نفسه، كما يمكن وضعه على الرف دون أن يثير غضب أحد، ودون أن يلفت انتباه العامة واهتمامهم. فالمواطن العادي يلهث طول اليوم لتأمين قوت يومه، ولا يهتم بنصوص لا يعي معانيها، وفي الوقت نفسه فإن المحيطين بالحاكم جاهزون لتفسير النص كما يروق له وبما يناسب مزاجه ورغباته، وتطويعه ليتماشى مع نزواته.

في ظل هذه الأجواء التي كان يتجاهل نذرها عاشقو السلطة، بدأت مفاوضات بين ممثلين عن الرئيس هادي والسيد عبد الملك الحوثي، وكان على رأسهم عبد الكريم الأرياني وهو من أنزه الساسة اليمنيين وأكثرهم حرصا على أمان الوطن وازدهاره وإدراكا لمخاطر العناد، وكان الطرفان يعرفان تفاصيل الواقع اليمني، مما جعل التوصل إلى الاتفاق وشيكا.. لكن فجأة ارتبك المشهد باقتحام بنعمر المباغت له كي يتمكن من تجيير الاتفاق إلى رصيده، واستحسن أو عمل على استبعاد الأرياني، وأعاد الحوار إلى نقطة البداية. وهكذا أكد «أنصار الله» أنهم الوحيدون الذين يعرفون وجهتهم الأخيرة، ويعملون بمعرفة وحساب دقيقين للواقع في شمال اليمن، بينما يستمر البعض في المراهنة على السند الخارجي وحده لأنهم يؤمنون بقدرته على اجتراح المعجزات، وهو عامل مساعد لو كان الحامل الداخلي فاعلا وراغبا.

ما يبعث على الحيرة هو قبول الساسة اليمنيين التنازل عن مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية في صياغة مستقبل اليمن لمبعوث دولي صار يقحم نفسه في كل صغيرة وكبيرة، ولا ينسى تكرار التصريح بأن اليمنيين هم الذين يقررون مستقبلهم، ومن الطبيعي أن الرجل يسعى لمجد شخصي، لكن المؤلم هو أنه صار يتصرف كوصي على الشأن اليمني.


قبل أيام نشرت المواقع تصريحا قال فيه بنعمر «إن العملية السياسية في اليمن قد حققت تقدما كبيرا».. ولن أعلق.

"الشرق الأوسط"