الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:١١ مساءً

الدولة وعصاها

حسن العديني
الثلاثاء ، ١٦ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ٠١:٤٥ مساءً
أنا الدولة، مقولة شاعت في الأدب السياسي منسوبة للويس الرابع عشر، وتُستحضر في نقد الاستبداد لإجراء مماثلة بين ملك فرنسا الداهية وبين الطغاة من الحكام في هذا العصر وفي كل عصر.

ومع أن «لويس الرابع عشر» كان حاكماً مستبداً، شديد القسوة على خصومه السياسيين، إلا أنه كان مستنيراً ولوعاً بالفنون والآداب والعلوم، مشجعاً عليها، حانياً على أفذاذها وباذلاً من أجلها، فجاء عهده الذي دام نصف قرن أجلى وأزهى عصور النهضة في فرنسا، ومن فرط شغفه بالفنون أولى رعاية خاصة للشعراء أمثال «موليير» و«راسين» وغيرهما، خصوصاً حمايته لموليير بالذات من غضب الارستقراطية الباريسية التي وخزتها حتى الوجع تهكماته الحادة وسخرياته المريرة، خصوصاً في «طرطوف» أشهر مسرحياته.

ذلك الملك المستبد لم يمنح نفسه حق العبث بالقانون فيعتدي على أحكامه المنظمة للعلاقة بين المواطنين وبين التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية أو يهدم قواعده المستقرة والراسخة، وإنما أطلق صرخته في وجه المطالبين برفع فرنسا إلى عصرية مناظرة لما كانت عليه بريطانيا، قاصدين إيجاد نظام يتأسس فيه برلمان من ممثلي الشعب رغم أن فرنسا كانت الأعظم في أوروبا كلها من حيث النهضة الفنية والحضارية في ذلك العصر. ورغم أن الشعب الفرنسي بدا مستعداً على الدوام أن يغفر للملك الشمس- كما يكنى- خطاياه الكثيرة لما أنجزه لبلاده.
إن «أنا الدولة» تعبير قد يبدو قابلاً للنقاش وربما للفهم، إذ صدر عن ملك بحجم «لويس الرابع عشر» لكنه يصبح مثار استهجان عندما يتملك العاديين من الرجال، سواءً أفصحوا عنه أو تصرفوا بموجبه دون اعتراف ومن غير إعلان. وحيث قاله سليل البربون ذاك، فقد كان يحفظ للدولة كيانها ومهابتها بينما لا يأتي من الذين يتمثلون القول سوى معنى الطغيان وسفك الدماء، بينما يدمّرون أي أساس للدولة بعد أن يهدموا بنيانها.
ولقد وجدنا منهم كثيرين في اليمن حتى وإن لم يعتلوا عرش السلطان، وفي وقت كانت الديمقراطية عنواناً مكتوباً على الجدار وراء منصة الحكم، كان الدستور مزقاً مبعثرة تحت أقدام الجالسين على المنصة وقريباً منهم حيث يقف الحراس والحجاب، وكأن الوطن ضيعة خاصة وحق الأمر ماركة مسجلة.

في ظل هذه الديمقراطية المزيفة وصف كل منتقد للرئيس السابق وطريقته في الحكم بالخيانة بل الخيانة العظمى، وسمع رئيس البرلمان يقول قولته الأثيمة «من كتب لُبج» مخاطباً محتجين على ضرب أستاذ الفلسفة الدكتور «أبوبكر السقاف».

لم يقل الرئيس السابق «أنا الدولة» ولكنه تصرف بحكمها وأدار البلاد بموجبها، وعلى ذمة حميد الأحمر أنه قال ذات يوم «أنا القانون». أما الشيخ عبدالله الأحمر فقد سمعتها من لسانه في صالة وثيرة الأثاث ملحقة بمكتبه في مجلس النواب، وكنت أنتظره مع الصحفي اللبناني «صبري زعيتر» لإجراء حديث لصحيفة السفير في إحدى الصباحات من العام 1996م. كنا في انتظاره وأقبل يتوكأ على عصاه، وبينما يهم بالجلوس على الكرسي المطلي باللون الذهبي، قال بأنه سيتحدث لـ«السفير» مع أنها تهاجم الإصلاح. ولم تكن الصحيفة في واقع الأمر تتهجم على حزبه مثلما ادعى وإنما كانت تقارير مراسلها في صنعاء تتناول بحيادية مطلقة صراعه مع المؤتمر على الفوز بالوظائف والأموال العامة، بشكل خاص حربهما في وزارتي التموين والثروة السمكية.
وحيث يرأس الشيخ البرلمان فقد رأيت أن أخفف من تبرمه بتأكيد عدم معاداة «السفير» لليمن، ولقد كان في ذهني أن التقارير الصحفية كانت تغطي مجريات الخلاف اليمني ـ السعودي حينذاك حول الحدود، من زاوية مؤيدة لحق اليمن. وكذلك علقت على ملاحظته «المهم أن السفير مع اليمن» مع ما تحمله الملاحظة من إيماءة أخرى إلى أن مماحكات الإصلاح والمؤتمر هي في الإطار اليمني، لكن الشيخ رد بلهجة حازمة: ومن هي اليمن؟ الإصلاح هو اليمن، «أنا اليمن». ولم أعلق بالطبع، وإنما نقلنا الحديث إلى موضوع الحديث بتوطئة تؤكد السعادة به والامتنان له.

قبل هذه الواقعة كان للسفير لقاء مع الشيخ الأحمر ضمن أحاديث أجراها في السنة السابقة 1995م أجراها رئيس تحريرها طلال سلمان بحضوري وشملت إلى جانبه الرئيس علي عبدالله صالح ورئيس الوزراء عبدالعزيز عبدالغني ووزير الخارجية في ذلك الوقت الدكتور عبدالكريم الارياني. وقد حدثت مشكلة بين السفير وكل من رئيس الجمهورية آنذاك ووزير الخارجية بسبب نشرها حديثيهما بدون اقتطاع أجزاء قالاها باندفاع أثناء اللقائين ثم ترجيا حذفها. وفي حمأة غضبهما نقل إلى رئيس البرلمان ورئيس الوزراء ما يؤكد الانطباع بأن حديثيهما تعرضا للتشويه أو زيد إليهما بنفس الطريقة التي كان الرئيس ووزير خارجيته قد أنكرا ما نسب إليهما. ولأن السفير لا توزع في اليمن وما ينشر ينقل بواسطة السفارة إلى الرئاسة ووزارة الخارجية، فقد اتصل بي الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني وعبدالقادر القيري مدير مكتب الشيخ الأحمر. وعندما أطلع كليهما على حديثيهما منشورين أقرا بأمانة ما نقل. كذلك أخبرني عبر الهاتف عبدالقادر القيري وأيضاً عبدالعزيز عبدالغني. لكن اللافت في حديث الشيخ الأحمر أن مهنية «طلال سلمان» اختارت منه العبارة الدالة على شخصية صاحبه ووضعتها عنواناً له وكانت «أنا عصا الدولة».

والواقع أنني احترت حينها في تفسير العبارة وهل قصد الشيخ أنه عصا تتوكأ بها الدولة أو تضرب بها. غير أني استعدت الجملتين «أنا اليمن» و «أنا عصا الدولة» عندما رأيت صورة صادق ابن الشيخ الأحمر بعد اقتحام الحوثيين منزله الشهر الماضي والنساء من حوله مع ذلك التعليق الباكي غياب الدولة «إذا لم تدافع الدولة عن منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، ولم تفعل حاشد، فنحن حرائر اليمن سنحمي هذا البيت».

لا مجال للشفقة ولا للشماتة، ومن الشهامة والرجولة إدانة العدوان على حرمة البيوت أياً كان المعتدي أو المعتدى عليه، إنما مغزى الدرس واجب التعلم والاتعاظ، فالشيخ عبدالله الأحمر أنفق عمره في منع قيام الدولة لكي تكون سلطته فوق كل سلطان وحتى تظل إرادته فوق أي قانون وبعد أي قانون. ولكي لا يجد أي مستبد بالسلطة نفسه يطلب مظلة الدولة في أشد لحظات الضعف مأساوية فليس من عصا للدولة سوى القانون وحده.

وربما يكون الحوثيون الآن أكثر من غيرهم حاجة لتمثل الدرس. ذلك أن كل ما يقومون به إهدار لما تبقى للدولة من كرامة وما بقي للقانون من ظلال. وأشعر اليوم أنهم في هاجس استكمال خطتهم باعلإن تمهد له كتابات الموظفين في خدمتهم. أكان ذلك بالدعوة إلى تكوين مجلس عسكري أو بإعطاء لبوس الشرعية للأمر الواقع المفروض على البلاد بقوة ميليشيات تحيي غزوات أول القرن الماضي أو تلك التي قادها الإمام المتوكل اسماعيل منذ قرنين ونصف..إن مغامرة تثبيت شرعية القوة ستقود إلى حرب في الداخل مؤكدة وتدخل من الخارج محتمل.

يرجح هذا حضور قوي لإيران على المسرح، وإذ ما وقع المحظور فقد يصبح البحث عن الدولة بعد سنوات انهاك مطلب الحوثي كما هو مطلب الأحمر وكما كان مطلب الشعب على الدوام.

غير أني لم أزل على تفاؤل باستحالة الانقلاب واستحالة الانفصال ومعهما وبينهما انطفاء جذوة الحرب الأهلية بمياه الحكمة ورجاحة العقل.

"الجمهورية نت "