الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢١ مساءً

الإشكال الحقيقي هنا

نبيل البكيري
الأحد ، ٠٨ فبراير ٢٠١٥ الساعة ١١:٣٠ صباحاً
ربما لم تمر اليمن بمشهد أكثر وضوحاً، وكاشفاً لعمق أزمتها البنيوية المستعصية تاريخياً كهذه اللحظة التي تمر بها البلاد منذ سقوط عاصمتها مجازاً وتسليمها حقيقة في 21 سبتمبر الماضي، ليتجلى المشهد بوضوح أكثر فيما بعد ذلك، بإسقاط الرئيس عبدربه منصور هادي ورئيس وزرائه خالد بحاح كرهاً بالاستقالة التي تم إعلانها مساء 22 يناير الجاري.

فمن عمق تلك العقدة اليمنية التاريخية تناسلت كل أزمات يمن ما بعد مجيء مؤسس المذهب الهادوي (الإمام الهادي) بحسب أدبيات الزيدية السياسية، يحيي بن الحسين الرسي عام (284 هـ) ذلك المجيء الذي - بحسب الباحث التاريخي الصديق محمد صلاح - أنه أخَّر دخول الإسلام إلى اليمن حتى تاريخ 26 سبتمبر 1962م.

فبمجيء الزيدية “الهادوية” إلى اليمن دخلت اليمن طوراً تاريخياً مختلفاً، أهم سماته الارتداد الحضاري الكبير عن يمن أطلق عليه اليونانيون القدماء بلاد العربية السعيدة، لا لشيء إلا لمدى ما بلغه اليمنيون من تقدم ورقي كبيرين على المستويين الحضاريين العمراني والثقافي.

ذلك المستوى الذي دفع (وول ديورانت) صاحب (قصة الحضارة) إلى التشكيك في أن أصل الكتابة البشرية جاء به اليمنيون بعد الهيروغليفية، ليس ذلك فحسب، فأمة ضاربة جذورها أكثر من خمسة آلاف سنة في التاريخ لم يكن غريبا عليها ما يحكيه أحد النقوش المعينية عن “أن لابن المعينية ما لأمه من الحقوق والواجبات” ونحن هنا نقف أمام نص قانوني في الألفية الأولى قبل الميلاد يتحدث عما يُعرف اليوم بقانون الجنسية الذي اهتدت له البشرية في منتصف القرن العشرين الماضي.

ولكي لا نبحر بعيداً في سرديات التاريخ، نعود إلى أس أزمتنا اليمنية الراهنة، وهي فشل واحدة من أهم الفرص التاريخية كلها بعد فرصة وثيقة العهد والاتفاق 18 يناير 1994م، والتي تمثل أزمتنا الراهنة مجرد تكرار تراجيدي حرفي لتلك الأزمة، وإن بعناوين ومسميات أخرى.

فأزمة اليمن اليوم هي أزمة بنيوية كامنة في فشل اليمنيين الدائم في تحقيق وإنشاء دولتهم المنشودة ككل العالم من حولهم، دولة المواطنة المتساوية والنظام والقانون.

هذا المطلب الذي غدا حلماً اليوم لدى اليمنيين، والذي لا شيء يقف في طريق تحقيقه وتحققه سوى تلك الفكرة “المدنسة” المتمثلة بالأفضلية الإلهية المزعومة التي تروج لها وتحملها الهاشمية السياسية، ممثلة بالحوثية راهناً، وكل من يتحالف معها ويمشي في ركابها أو يسيرها في ركابه و مشروعه الذي يصب في بقاء مصير اليمن وكل اليمنيين مرهوناً بمصالحه.

قد يندفع أحدكم متسائلاً: وما علاقة الحوثيين بأزمة وحرب صيف 1994م، وهم الذي كانوا حلفاء للحزب الاشتراكي، حينها سأقول باختصار إن حالة الشره والفيد والاستحواذ والكره للنظام والقانون الذي تبدو عليه مراكز القوى المنتمية لجغرافيا المذهب الحوثي ليس سوى عقيدة دينية لدى القوم، من لدن موحد اليمن بالقوة، المتوكل على الله إسماعيل (1644 - 1676م) صاحب الفتوى الشهيرة “إرشاد السامع لجواز أخذ أموال الشوافع” وحتى الإمام علي بن عبدالله صالح، وكثير من قوى هذا المركز السياسي.

ومن هنا فكل حروب الحوثية ضد نظام صالح وغيره لم تكن بحثاً عن الدولة والنظام والقانون، وإنما بحثاً عن نصيبهم وحقهم الإلهي المزعوم، الذي نازعهم صالح وحاشيته فيه، وباتفاقهم اليوم على تقاسم ذلك الحق المزعوم، نسوا كل تلك الحروب التي سقط فيها آلاف اليمنيين، واتحد الطرفان لإجهاض ثورات اليمنيين بحثاً عن الدولة والنظام والقانون من فبراير 1948م حتى فبراير 2011م.

من هنا كان طبيعياً ألا يتقبل سدنة المركز المدنس وجود رئيس من خارجه إلا على مضض، ريثما يستعيدون ترتيب صفوفهم، وقد فعلوا، وهذا ما قاله أحدهم حينما سأله البعض.. لماذا تكرهون هادي الذي قدم لكم كل شيء وخدم مشروعكم خدمة كبيرة، فيما تحبون صالح الذي حاربكم وقتل زعيمكم؟، فرد هذا القيادي ببرود شديد “خلافنا مع صالح سياسي وخلافنا مع هادي عقائدي”.

لذلك فكل أحاديث الجماعة عن الفدرالية والنظام والقانون والدولة المدنية ومكافحة الفساد، وغيرها من المصطلحات الحداثية ليست سوى بروباجندا دعائية، تفضحها الممارسات الهمجية للمليشيات على أرض الواقع وامتهانها للإنسان اليمني وخلال فترة قصيرة جداً، وهي لم تتمكن بعد من كل أجهزة الدولة وجغرافيا الوطن بعد، فكيف إذا تمكنت؟!.

ومن هنا أعتقد ستغدو الصورة أكثر وضوحاً حول سر ذلك التباكي “الكاذب” للحوثي حول مظلومية القضية الجنوبية، التي يدغدغون بها مشاعر البسطاء، فيما القضية الجنوبية نتاج طبيعي لذهنية الفيد المقدس لعصابات المركز المذهبي لا الجغرافي، لذا فشره هذه الجماعة وهمجيتها لن يتوقف عند شمال اليمن أو حتى جنوبه فطموحهم أبعد من ذلك بكثير، ما لم يتحد اليمنيون صفاً واحداً لمواجهة هذه الآفة السلالية المدمرة.

*الأيام