السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٥٨ مساءً

فوضى.. لن تدوم

سعدية مفرح
الجمعة ، ٠٣ يوليو ٢٠١٥ الساعة ٠٣:٥٥ مساءً
تقول لي إحدى القارئات الوفيات لمقالاتي، في كل منبر أكتب فيه، إنني تغيرت في الكتابة منذ سنوات قليلة، ولم أعد أكتب عن القصائد والروايات والأفلام والموسيقى واللوحات التشكيلية بالغزارة التي كنت أكتب فيها سابقاً عن هذه الموضوعات التي وصفتها بالملونة. وبدلاً من ذلك، صرت أختار موضوعاتي من بين النار والدمار والدماء، وبعضها عن قضايا ثقافية وفكرية، لا تخلو استشهاداتي فيها من النار والدمار والدماء، وفق تعبيرها.

لا أدري إن كانت تلك القارئة الذكية التي طالما انتظرت رأيها في ما أكتب تلومني على تغيري، أم تشجعني عليه، أم أنها ترصد أحوالي في الكتابة فحسب. لكنني لا أملك إلا أن أتفق مع النتيجة التي توصلت إليها أخيراً فعلا.

نعم، تغيرت في ما أنشره من مقالات، وتوارت كتاباتي الأخرى، في خلفية المشهد على جهاز الكومبيوتر أمامي، كفسحة ونافذة أمل واستراحة بيني وبين نفسي، بعيداً عن القراء.
كلما شرعت بكتابة مقال جديد، أجد صعوبة في الابتعاد عن لغة الدم والدمار التي أصبحت اللغة الأم، كما يبدو في يومياتنا العربية. أصبحت أخجل، أحياناً، من الكتابة في موضوعاتي المفضلة في الشعر والفن، في ظل واقع أسود، يلغي للأسف كل الألوان الأخرى في طريقه.

حادثة تلو أخرى، وجريمة تلحق بأختها. جثث ملقاة على قوارع الطرق، وأشلاء متناثرة في الميادين والساحات، وأخيراً في المساجد، ودماء تسيل هنا وهناك، حتى أصبحنا نستشعر رائحة الدم المخلوط بعفن البشر، ووقاحتهم، في كل ما حولنا أحياناً. لا منجاة من العفن، والذي تتوسع مساحاته يوماً بعد يوم في أجسادنا، ولا مناص عن القرف الذي صار يغلف الهواء الذي نتنفسه.

وعلى الرغم من أننا جزء من هذا الجوء العام، نشارك في الجريمة أحياناً، بشكل أو بآخر، من دون أن ندري، أو ندري ولا نعترف، ونكون ضحاياها أحياناً أخرى، وأيضاً من دون أن ندري، أو ندري لكننا لا نعترف، إلا أننا لا نعرف السبب.

ما الذي جرى لنا؟ فجأةً، تلبد الجو العام للكلام والكتابة واللقاءات والتلفزيون والصحف والفضاء الإلكتروني، بكل هذا الغبار الدموي الذي لا يذر. فجأةً، وجدنا أنفسنا في معضلة التعبير عن النفس بطريقة وواضحة وسهلة وحرة، ومن دون وسيط غالباً، فاختلط الحابل بالنابل بالكاتب بالقارئ. لم تعد هناك نخبة مثقفة توجه الرأي العام، ولم يعد هناك رأي عام بالمطلق، ذلك أن أدوات تلقي الخبر اختلفت، ولم تعد للأنظمة وللأحزاب وللجماعات والفئات الفكرية والاجتماعية والعرقية والدينية أي سيطرة حقيقية عليه، والنتيجة هذه الفوضى العارمة، كما تبدو لنا لأول وهلة، على الرغم مما تخبئه وراءها من بذور للانطلاق الحر.

على الرغم من كل ما تخلفه هذه الفوضى الظاهرة وراءها من تعقيد، إلا أنني أرى فيها الكثير من النور والمزيد من الأمل. لماذا؟ لأنني أظن أننا نمر بمرحلة انتقالية هائلة، لم يسبق لها أن حدثت بهذه السرعة وهذه الشمولية وهذه القوة، وستمر، أو سنمر، نحن عليها، عابرين إلى ضفاف أخرى من أنهار الحياة. صحيح أننا نتقهقر الآن، لكننا من الفريق المتفائل الذي يرى أنه تقهقر إلى الأمام، وأن الأمة سبق وأن مرت بمراحل أسوأ وأخطر، ضاعت فيها البلاد والعباد، أكثر مما ضاع اليوم. ولكن، لم يكن هناك من يستطيع أن يقول، أو يعبر عن رأيه، إلا قلة قليلة.

أما اليوم، وبعد توفر مساحات القول والنشر بطريقة سهلة ورخيصة، كلنا نشارك، أقلها بالكتابة والكلام، ولم يعد أحد يستطيع أن يفرض رأيه علينا باسم النظرية أو الجماعة أو الحزب أو الدولة، أو حتى النخبة، ولا بد أن الكلمات ستزهر حرياتٍ يوماً ما.. من يدري؟

"العربي الجديد"