الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٣٧ مساءً

من الحياة في الحرب

وئام عبد الملك
الاربعاء ، ٠٨ يوليو ٢٠١٥ الساعة ١١:٠٤ مساءً
تلاشت أصوات الدعوات ت والصلوات بُعيد صلاة المغرب، واستمرت الاشتباكات في غير انقطاع، كان الحي هادئا، بعد أن غادر الكثير من الجيران منازلهم، وكانت المولدات الكهربائية مرغمة على الصمت لعدم توفر الوقود، بقيت بمفردي في غرفتي، يلفني الظلام الذي لم يعد يخفيني بعد أن اعتدنا على العيش لأيام، دون أي انبثاق لأي ضوء ولو خطأ.

انزويت في أحد أركان الغرفة بالقرب من النافذة، نظرت صوب السماء وكان القمر مضيئا وبوقار، فتحت الجهاز اللوحي وحاولت أن أكمل قراءة أحد الكتب السياسية فكنت كمن يحشو شيئا ممتلئا حتى آخره وفشلت في التركيز والاستيعاب، ثم قررت أن أكمل قراءة أحد كتب الألماني جوته، كدت ألا أفلح في ترويض نفسي هذه الليلة لكني نجحت أخيرا، وما هي إلا دقائق حتى غصت بين كلمات جوته الذي كان متماهيا في السطور، فرأيت فرتر وهو يجثو على ركبتيه يقبل يد شارلوت، ويلعب مع إخوتها، ومرات وهو مهزوم وموجوع من البرت، ومرات وهو يراقب الطبيعة في صمت ويرسمها، ومرة أخيرة وهو قد ينتصر على نفسه وقرر التفريط بها... إلخ.

وأثناء قراءاتي استمرت أصوات الرصاص والقذائف في الصراخ الجنوني، أشبه بصراخ الجحيم الذي كتب عنه دانتي، تعبث تلك الأصوات بأرواح من تبقوا في المنازل، وبقيت أنا أجاهد على التركيز لإكمال القراءة، وأختبر قدرتي على قراءة ما يحتاج إلى تركيز.

هبت رياح لطيفة وشعرت بها كالغريب، بعد أن بدأت درجات الحرارة ترتفع في المدينة، ولم استأنس لتلك الرياح، عبثتْ بالستارة كثيرا، وكانت تصدر أصواتا خفيضة من وقت لآخر، لكن الصخب الذي لم يعد في المدينة كان يجعل سماعها يسيرا، بعد أن ابتلع الهدوء المدينة، وكانت الرياح باردة ونظيفة لأول مرة، على الرغم من أنها في اليوم السابق كانت لا تحمل إلا رائحة البارود والنفايات المتكومة في الشوارع، أفعمت روحي هذه المرة بالاغتراب على عكس ما كانت تفعل كل مرة، فتجاهلتها ولم أقف بجوار النافذة أفعمني بما تيسر للطبيعة أن تمنحني إياه.

أسلمتني تلك الرياح نهبا للبكاء، قاومت رغبتي تلك، واستمر الهواء الذي يجب أن يكون منعشا ولم يكن كذلك، يتدفق في أغوار روحي ويفتح أبوابها، واستطاع بصعوبة أن ينفذ إلى أماكن عميقة ومخبوءة، ومشرعا أبواب الحنين للحياة، وبقيت ستارة الغرفة تذهب جيئة وذهابا يراقصها الريح، دون أن يحفزني ذلك على النهوض والخروج من العتمة، ولم تستطع تلك الرياح أن تحلق بروحي معها.

وبدأت أصوات أذان العشاء تتناهى إلى مسمعي من بعيد، والرياح تزداد شراسة منهوكة، وأصوات الرصاص والقذائف تبتلع السكون، وتحطم الهدوء على عتباتها، وتلوث الهواء في آن واحد، وسمعت بعد ذلك بثوانٍ صوت الأذان في الحي رافقه صوت إطلاق قذيفة مدفعية، أصخت السمع، وتساءلت بفضول عقيم، هل تهدج صوت المؤذن؟ أرواحنا كانت قد تهدجت، لكن صوته لم يرتعش، وأكمل المؤذن الآذان وصلى ودعا، لم أميز ما كان يقول لارتفاع صوت الميكروفون، لكني ميزت من نبرة الصوت والأداء إن كان يصلي أم يدعو الرب لأجل ضحايا هذه الحرب الشعواء.

نهضت وصليت، وفي دقائق ارتقت روحي عن حروبهم، وطلبت من الرب أن يمنحنا فرصة للعيش كما يليق، أو لا نعيش، هذه الحرب جعلتنا نتنبه للأذان أكثر من أي وقت مضى، لأنه الصوت الحي الوحيد الذي يؤنس أرواحنا الآن، أما أصوات الرصاص والقصف، الذي نفتقده أحيانا لأنا نعلم أن توقفها يعني أن الحرب سيطول أمدها يوما آخر، وسيعقبها جحيم أسوأ.

تلك الأصوات تستهلك ما تبقى من حياة في أرواحنا، وكثيرا ما تذكرنا بالوطن الذي يضيع كما نضيع نحن، وتجعلنا نتمنى لو كانت سمفونية الرصاص والمدافع التي ابتدعتها الحرب، نغمات ستعزف مرة واحدة أخيرة قبل وفاة الحرب إلى الأبد، لنلملم باكين بقايا الوطن معا، وأرواح المحبين الحياة، والتي توزعت أرواحهم بين الألم والجوع والحزن والقلق والمرض والاضطراب والاغتراب والانتقام والحقد والكره والانقسام.


كم أنت يا أيهذا الوطن كريم الحب! وكم أنت رخيص لدى بعضنا كرماء الوجع!