الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:١٢ مساءً

زميلي الذي لا أعرف اسمه: أنا آسفة!

سعدية مفرح
الاثنين ، ٢٧ يوليو ٢٠١٥ الساعة ٠٦:٠٧ مساءً
أشعر الآن أنني مدينة باعتذار لزميل لي، لم أعد أتذكر اسمه ولا حتى شكله، لكنني أتذكر أننا كنا ندرس معًا في جامعة الكويت في ثمانينيات القرن الماضي. أتذكره كلما تابعت حوارًا صاخبًا حافلًا بالاتهامات المتبادلة والتخوين المشترك والأصوات المتشابكة على شاشة التليفزيون أو شاشة تويتر، أو لعلي أتذكر الموقف الذي جمعني وإياه وسط مجموعة من الزملاء والزميلات في حفلة نقاش صاخبة بدأت بفلسطين وانتهت بزجاجة كولا، وكنت فيها الأكثر تطرفًا في الرأي وفي النقاش وفي المفردات وفي علو الصوت وفي استخدام السلاح أيضًا! كنت متطرفة حقيقية فعلًا مثل كثير من زملائي وزميلاتي يومها.

هل ما زلت كذلك؟ هل ما زالوا كذلك؟ هل نجونا من غائلة التطرف فعلًا؟ وإن لم ننج فلماذا؟ وكيف ننجو الآن؟

بكل تفاؤل يمكن أن أنظر من خلاله إلى المستقبل أقول إننا لم ننجُ ولن ننجو بشكل كامل! لن ننجو أبدًا. تلك هي النتيجة التي أوصلتني إليها خبرة السنين المتراكمة وتلاحق الأحداث وعشرات من الحوارات والنقاشات ومراقبة الأمور عن بعد وعن قرب، بعد التعرض لاختبار الزمن في منطقة جغرافية ملتهبة دائمًا بكل مقدمات ونتائج التطرف.

علينا إذن، نحن المفرطين في التفاؤل وممارسة الأمل كسبيل حياة ومنهج نجاة، ألا نتعلق كثيرًا بالصورة المثالية التي نتوقع أن نكون عليها في الغد الوردي السعيد وسط دعوات ما يسمى الوسطية التي لم نعرف حتى الآن المقصود بها بدقة.

كلما رأيت دعوة من دعوات الوسطية التي تنتشر هذه الأيام بعديد الصور والصيغ وبواسطة الوجوه ذاتها التي يصفها خصومها بالتطرف وبشكل متبادل، أكتشف أنها مجرد كذبة كبيرة. وأن الوسطية بالنسبة لهذا الداعي إليها أو خصمه الداعي إليها أيضًا نوعٌ من أنواع التطرف الخفي؛ وبالتالي فالوسطية مجرد كذبة يحاول البعض من خلال تبنيها وتصديقها والعيش تحت ظلالها الخادعة أنه مواطن صالح وغير متطرف، حتى لا يواجه نفسه بما لا يستطيع مواجهة الآخرين به.

أما الجانب المشرق قليلًا، فهو أن التطرف أنواع ومستويات، من أخفها وأدناها ما يدعو أحدهم لأن يحظرك من متابعة حسابه على تويتر، على سبيل المثال، لمجرد أنك اختلفت معه في الرأي أو لأنك رددت عليه بلغة رأى هو، بمعاييره هو، أنها غير أخلاقية، مع اعترافه هو أيضًا، في مناسبات وسياقات أخرى، أن الأخلاق في الحوارات من الأمور النسبية، أما أثقلها وأعلاها فهو القتل والذي ينتهجه المتطرفون تحت حجج كثيرة أغلبها دينية، وأننا نستطيع على الأقل، ووفقًا لمنهج أضعف الإيمان أن نتعايش مع التطرف بأقل أشكاله وأن نخادع أنفسنا قليلًا فنسمي ذلك وسطية واعتدالًا وتقبلًا للآخر تحت مظلة الاختلافات معه، مع أن الاختلاف هو السبب الأول والأخير لكل تطرف!

لقد خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل، ومن داخل هذه الشعوب والقبائل خلقت المزيد من الشعوب والقبائل الجزئية ومنها خلقت غيرها وهكذا وصولًا إلى فكرة الفرد الواحد الذي يملك وحده الحقيقة الواحدة!

ومع أن التنوع والاختلاف هو أساس الخلق الإلهي للبشرية، وأن الله لو أراد لخلقنا إنسانًا واحدًا بحقيقة واحدة ونسخ متعددة؛ إلا أن معظم بغضاء التطرف نتجت عن ذلك الاختلاف في الخلق الإلهي لنا كبشر.
لم أقرأ في كل قراءاتي نصًا مقدسًا يدعو المؤمنين به إلى التعصب أو التطرف أو احتكار الحقيقة القصوى؛ بل إن ميزة النصوص المقدسة الكبرى: تلك اللغة الفضفاضة التي تتحرك فيها لتكون هي نفسها اقتراحًا مستمرًا للتعاطي مع كل ما تنتجه الحياة من اختلافات وتنوعات. المهم ألا نطغى في الميزان الدقيق الذي خُلقنا من أجله أحرارًا بالكامل.

عندما أستعيد طريقة نقاشاتي مع زميلاتي وزملائي على طاولات كافتيريا كلية الآداب في جامعة الكويت قبل ما يربو على ربع القرن حول قضايا الساعة يومها؛ مثل مقاطعة مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد، واجتياح بيروت وطرد الفلسطينيين من لبنان إلى تونس، والحرب العراقية الإيرانية، والتطبيع مع إسرائيل، وتفجيرات الثمانينيات في الكويت، وغيرها من القضايا السائدة آنذاك؛ أضحك بمرارة، خصوصًا عندما أتذكر كيف أنني انتفضت وأمسكت بزجاجة المرطبات التي أمامي استعدادًا لقذفها على طالب كان يرى أن الزعماء الفلسطينيين سيجلسون في النهاية على طاولة واحدة مع الإسرائيليين ويتفاوضون، وأنهم في النهاية سيقبلون بعضهم البعض وهم يلتقطون الصور!

لا بد أن الطلبة الجالسين الآن على طاولات نفس الكافتيريا، إن بقيت في مكانها يتناقشون بنفس الطريقة ونفس الحماسة حول القضايا المستجدة، كل واحد فيهم يقول إن الرأي رأيه، وإنه وحده من يملك الحقيقة. صحيح أنني تخلصت بمرور الزمن من ذلك النوع من التطرف، لكن أعترف أنني ما زلت أحتفظ بالقدر الأزلي منه حتى وإن لم يخرج على سطح القول والكتابة إلا قليلًا؛ نتيجة تدريب ذاتي مستمر ما زلت أجاهد في سبيل استمراره، وعلى سبيل هذا الجهاد سأعتذر الآن لزميلي العزيز الذي نسيت اسمه وكنت سأهشم رأسه بزجاجة الكولا التي لم أكن قد فتحتها بعد لحظتها لولا أن الله ستر!

أريد الآن أن أعتذر منك يا رفيق طاولة كافتيريا كلية الآداب في جامعة الكويت بأثر رجعي. أنت تستحق مني هذا الاعتذار منذ أن رأيت ذلك المشهد الذي صورته لي يومها بدقة، بعد حوارنا بسنوات قليلة على شاشة التليفزيون التي كانت تبثه من أوسلو! لقد كنت تقول رأيك فقط، والغريب أن السنين التي مرت بعد ذلك أثبتت أنك على حق في كل ما قلته: زميلي العزيز.. إن كنت تقرأ هذه السطور سأقول لك الآن: أنا آسفة.

"التقرير"