الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٠٢ مساءً

ما أسهل الإنسانية!

سعدية مفرح
الخميس ، ٠٦ أغسطس ٢٠١٥ الساعة ٠٤:٠٢ مساءً
على بساطته الظاهرة، إلا أنني أعتبره مأزقاً أخلاقياً، وامتحاناً وجودياً، أواجهه بيني وبين نفسي، كلما تحتّم عليّ، لسبب أو لآخر، أن أنشر صورة فوتوغرافية لأحد البائسين في هذه الحياة، وكلنا في البؤس سواء في المضمون، على الرغم من أن مظاهره تتنوّع وتتعدّد علينا.

والصور الفوتوغرافية في هذا الباب كثيرة. صورة لطفل ملائكي الملامح يعاني العوز والحاجة، بملابس رثّة، وعيون باكية، وتقاسيم في منتهى البؤس، يقف في زاوية من زاويا الحياة، محدّقاً في عدسة الكاميرا، برفقة بضع كلمات تشرح الموقف، ويطلب له المساعدة من يراه ويقرأ حكايته. صورة ثانية لعجوز في ثمانيناتها، محنية الظهر تحت وطأة أنبوبة غاز تحملها، وتقطع بها أميالاً، مشياً على قدميها، لأنها لا تملك ما توصل به هذه الأنبوبة إلى بيتها البعيد، وما من أحد يهتم بأمرها ممّن حولها، مع حكاية أخرى تنتهي بأرقام هواتف وعناوين بريد إلكترونية، يمكن المساهمة، من خلال التواصل عبرها، في مساعدتها لتجلس في بيتها، وتقضي ما بقي من عمرها براحة ورضى.

صورة ثالثة، مراهق يجلس على قارعة الطريق، تحت درجة حرارة تقترب من الخمسين، وأمامه كومة من "الرقّي" (البطيخ)، يبيعه على المارة، في محاولة اضطرارية منه لمساعدة أسرته المحتاجة، حيث ترك مقاعد الدرس مبكراً لأداء هذه المهمة، فمن يعيده إلى المدرسة، بالتبرّع ببضعة دنانير، عبر معلومات مصرفية منشورة تحت الصورة؟

صورة رابعة، مريض تتشابك أسلاك الكهرباء وأنابيب التغذية والأمصال على جسده الواهن، بانتظار مساعدة تساهم في إنهاء معاناته من العلاج الذي لا يقدم ولا يؤخر، وترسله إلى الخارج، حيث العلاج شبه المضمون في إحدى المستشفيات المكلفة.

وخامسة وسادسة وعاشرة وغيرها، وغيرها من الصور التي تشف عن معاناتنا جميعاً، ممثّلة بالصور والحكايات. وتتعدّد الأمثلة، ويزدحم الفضاء الإلكتروني بها وتنتشر بسرعة رهيبة، ذلك أن كثيرين منّا يساهمون في نشرها وإعادة نشرها، وترويجها بهدف استدرار عطف القراء، أو المتابعين، على هذه الحالة، ومن ثم مساعدتها قدر الاستطاعة، وحسب الإمكانات. وقد نقل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بيننا تلك الصور من زوايا الصحف والمجلات، لتصير المادة المفضّلة في "تويتر" و"فيسبوك"، مثلاً، ثم إنها تزايدت وتنوّعت كثيراً وبشروح مفصّلة وموجعة، تدر دموع العين، وتقطع القلوب الرحيمة التي تتوجّه لها بالنداء وطلب "الريتويت"، أو إعادة النشر أضعف الإيمان.

أعرف أن الحاجة أم الاختراع، وأن هؤلاء المحتاجين لولا أن السبل سُدّت في أوجههم فعلاً لما لجأوا إلى هذا الخيار المر على النفوس الأبيّة. ليس سهلاً على أحد أن ينشر صورة طفله، موسوماً بالفقر والحاجة، أمام ناس الإنترنت، فتبقى في ذلك الفضاء الإلكتروني إلى الأبد ربما. وليس سهلاً على هذا المراهق أن يكون مادة للتوسّل الإلكتروني وعرضة للاستغلال بحجج كثيرة، وليس سهلاً على هذا المريض أن تصل صورته، وهو في أضعف حالاته الجسدية، إلى من يسوى ومن لا يسوى، ممّن يعرف وممّن لا يعرف من الناس، لكن الأصعب من ذلك كله ألا يخوضوا التجربة، ويضحوا بمساعدات مرتقبة ومتوقعة، تنتشلهم من أوضاعهم الأشد صعوبة.

كثيرون منهم يندمون، بعد أن تتحسن أوضاعهم على تلك اللحظات الفوتوغرافية التي سهّل انتشارها من أراد مساعدتهم، فساعد على توثيق لحظات ضعفهم وحاجتهم وهوانهم على الناس، إلا أنه ندم في الوقت الضائع، ولعلّ هذا هو السبب الأول الذي يجعلني أتردد كثيراً في تمرير تلك اللحظات البائسة. أما السبب الآخر فهو خشيتي من أن تصبح البديل السهل والمجاني والمتظاهر والشكلاني من أي واجب إنساني حقيقي، نحن مطالبون به، تجاه حالات كتلك الحالات.

ومع هذا، ولأنني عاجزة، مثل كثيرين ممّن تصل إليهم تلك الصور، كثيراً ما أتغلّب على أسبابي، وأقتل ترددي وأضغط على أيقونة الريتويت. وأمضي إلى شأني، راضية عن نفسي، وكأنني أتيت لهم بما لم تستطع الأوائلُ؟ ياااااه.. ما أسهل "الإنسانية".

"العربي الجديد"