الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٢٠ صباحاً

لعبة خطيرة.. ومغرية

سعدية مفرح
الخميس ، ٢٧ أغسطس ٢٠١٥ الساعة ١١:١٠ صباحاً
نتغيّر سريعاً، وأحياناً لأسباب ومواقف بسيطة جداً. كلما رصدتني في حالة تغيّر ما أكتشف أن السبب أبسط ممّا كنت أتوقعه. مثلاً، كنت كلما سقط من عيني أحد أحبابي، بسبب موقف ما اتخذه على غير ما أتوقع وعكس ما أريد، راجعت قائمة الذين أحبهم وطابقت مواقفهم مع مواقفي من الحياة، وتصاريفها الفكرية والاجتماعية والسياسية، لإصدار مزيد من الأحكام النهائية التي تؤدي إلى سقوط مزيد ممّن اختلفوا معي في هذا الموقف أو ذاك. أراجع قائمة الأحياء منهم، فـ"أنصدم" بواحد، وأحتار بآخر أراه متدلياً برمش العين، منساباً مع دمعة تائهة، وموقف متأرجح. وأعود إلى قائمة الراحلين، فأحمد الله كثيراً أنهم رحلوا قبل أن أكتشف مواقف بعضهم المتناقضة مع مواقفي، فبقوا في عيني وقلبي وذاكرتي إلى الأبد. يا لها من لعبة خطيرة، على الرغم من أنها مغرية تماماً؛ أعني أن أصنّف الناس حولي، وخصوصاً أصدقائي ومعارفي الخُلّص، وفقاً لمعاييري الشخصية في الحكم على الأفكار والأحداث والقضايا، فلا أكتفي بإصدار أحكام تدينهم وحسب، بل ألغيهم تماماً، وأسقطهم من حسابات المعرفة والصداقة.

لكن، من أنا بالضبط لأفعل ذلك؟ من أنا لأتخذ من آرائي في الحياة، بكل تصاريفها، معياراً يتفرّق، بعد المرور عليه، الآخرون، ما بين فسطاطي الحق والباطل؟ وكيف تأكدت، تماماً، أنني في فسطاط الحق فعلاً، وأن كل من يتعارض معي في ما اخترت من آراء لا بد أن يسقط في تلك الحفرة المظلمة؟ هل أفعل ذلك وحدي؟ أم أنهم يفعلونها، كل على حدة، تجاهي وتجاه الآخرين؟ من الواضح أنها لعبة جماعية. ولكن، كل منّا يلعبها بمفرده وبقوانينه الخاصة التي يرسمها لنفسه، وبما يتواءم مع حالته وتفكيره ويرضي ذاته. نبالغ كثيراً في تقديرنا آراءنا الشخصية تجاه القضايا والأمور الخاصة والعامة، حتى لنتخذها معياراً نقيس، من خلاله، صحة آراء الآخرين ومواقفهم الخاصة والعامة. صحيح أن الحق بيّن والباطل بيّن، لكن، هناك متشابهات كثيرات بينهما، كما أن القضايا التي علينا أن نعلن آراءنا بشأنها لا تحتمل أن تكون إما حقاً أو باطلاً مطلقيْن. ومع هذا، نصرّ على ذلك الفصل الحاد بينها.

نفعل هذا أحياناً بقصد، وأحياناً أخرى من دون قصد ، بل ومن دون أن ندري أننا نفعله. ولا ننتبه إلا عندما ينبّهنا الآخرون، بل إننا، أحياناً، لا ننتبه حتى عندما ينبّهنا الآخرون. وأحياناً ثالثة، تأخذنا العزّة بما نعتبره برّاً خالصاً، وهو نوع من الإثم. أتذكر قبل سنتين تقريباً أنني اختلفت مع معظم أصدقائي وزملائي بشأن قضية كبيرة من القضايا التي تهم الأمة بأسرها، فكتبت، إثر ذلك، تغريدة فورية في "تويتر"، أقول فيها إن أصدقاء كثيرين سقطوا من عيني، بسبب موقفهم المخزي تجاه تلك القضية، فردّت عليّ فوراً صديقة وزميلة غالية، أثق بها تماماً، معاتبة، لاستخدامي تعبير السقوط في غير موضعه، كما ترى، وأن الاختلاف في قضايا، كهذه القضية، لا يستحق أن نسقط أصدقاءنا بسببه من أعيننا، وأنها كانت تتوقّع مني قليلاً من الانتظار والمراقبة والمراجعة، قبل أن أصدر حكمي النهائي القاسي على أصدقائي، بهذه السهولة.

شعرتُ بندم قليل لحظتها، تحت وطأة محبتي الكبيرة هذه الصديقة التي لم أكن أنوي إسقاطها، لا من قلبي ولا من عيني مهما اختلفتُ معها في الآراء، ذلك أنني أعرف منطلقاتها الخيّرة ومواقفها النبيلة، وأن موقفها المختلف معي الآن ليس إلا اجتهاداً أراه خاطئاً منها، ولا شك أن كثيرين مثلها.

لذلك، تراجعت عن استخدامي ذلك التعبير من دون أن أتراجع عن موقفي بشأن تلك القضية. تعلّمت، منذ تلك اللحظة، أن مساحة الاختلاف بين الأصدقاء ينبغي أن تكون بوسع الثقة السائدة بينهم، تحت مظلّة النيّات الطيبة، وإن لممارسة الاختلاف أدوات كثيرة، ليس منها الإلغاء الفوري والنهائي.

"العربي الجديد"