الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:١٣ مساءً

المتربّصون في مشعر منى

سعدية مفرح
الخميس ، ٠١ اكتوبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٤٣ صباحاً
مر يوم عيد الأضحى المبارك ثقيلاً على النفس، مضمّخاً برائحة الموت، ومشبعاً بالاتهامات والمزايدات، وبالمغالطات التي لا تليق أن تأتي في سياق الركن الخامس من الأركان التي بني عليها الإسلام. مليونا حاج من مختلف الأعمار والأعراق والثقافات والبيئات أتوا إلى مكة المكرمة، من كل فج عميق، عبر البر والبحر والجو في وقت واحد، ليؤدوا مناسكهم وشعائرهم في رحاب البيت العتيق، بلهفة تمام الدين العظيم التي ارتضاه الله لعباده، وأتمّه عليهم نعمةً من نعمه الكثيرة، وأعلنها على لسان نبيّه المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، على صعيد عرفة، قبل أزْيَد من ألف وأربعمائة عام؛ "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".

وفي سياق شعائر يوم العيد، حدث ما كدّر صفوه، وصفونا جميعاً، عندما تدافع آلاف الحجاج في طريقٍ من طرق مشعر مِنى، بشكل مؤسف، نتج عنه ما يزيد عن سبعمائة من الوفيات وعدد مقارب من المصابين.

ولم يكد ينتشر الخبر بأرقام الضحايا الذين تزايدت أعدادهم دقيقة بعد دقيقة، وقبل أن نعرف حقيقة ما جرى بالضبط، وقبل أن يستقرّ حزننا على من رحل في ذلك اليوم العظيم، كان التجاذب السياسي قد بلغ أوجه، ليس بين الدول التي لها علاقة بالحدث وحسب، بل حتى بين الناس.. جميعاً. بالتأكيد، لنا كلنا علاقة بما حدث، فمكة لنا كلنا نحن المسلمين، فهي قبلة صلاتنا ومهبط وحي نبينا، صلى الله عليه وسلم، وجغرافية الركن الخامس من أركان ديننا، نحبها كما يحبها أهلها..

ونحن جميعنا أهلها، وبالتالي، لنا الحق في انتقاد أي تقصير، مقصود أو غير مقصود، نراه من القائمين على أمور الحج وشؤون الحجاج، فخدمة ضيوف الرحمن شرف ينبغي على من حظي به أن يخلص فيه ويتمّه ويجوده، كما يليق بهذا الشرف. لكن الفرق واسع والمساحة شاسعة بين الناقد والمتربّص، وقد ظهر ذلك الفرق بوضوح، بعد دقائق من إعلان حادث تدافع مشعر منى، من خلال ردود الفعل التي غصّت بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل المختلفة، ردود فعل رسمية وشعبية!

فقد رصدنا تعليقات وتصريحات تقطر شماتةً وحقداً على المملكة العربية السعودية، باعتبارها البلد المسؤول عن كل شؤون الحج، وأخرى ترفض كل رأي منتقد، وإن صدر بإخلاص، وذهبت الآراء الموضوعية أدراج الغضب التي عصفت ما بين الفريقين المتطرفين. ومثلما أغفل الفريق الثاني أهمية النقد الصحي المبني على حرص حقيقي على ركن الحج وراحة الحجاج، ومكانة المملكة العربية السعودية المتكئة على ما شرّفها الله به من دور في ذلك، أغفل الفريق الأول، بتعمّد واضح، أن مثل هذه الحوادث تقع في معظم التجمعات ذات الكثافة البشرية الهائلة، والحج من أعظم التجمعات البشرية، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، والمملكة العربية السعودية لم تألُ جهداً في أي يوم في خدمة البيت العتيق وضيوفه من المسلمين، ولا يُنكر ما قامت به المملكة على هذا الصعيد، إلا جاحد ومغرض، حيث وجد في حادث التدافع الذي لم يكن يعرف أحدٌ بعد أسبابه فرصة للتعبير عن جحوده المغرض، من خلال ردود فعلٍ، لا يمكن قراءتها إلا في سياق حرب ممنهجة ومعلنة ضد المملكة، لأغراضٍ سياسيةٍ وبمزايدةٍ رخيصة.

ولا أدري كيف يستسيغ بعضهم أن يتخذ من حوادث وكوارث كهذه مناسبة يستغلّها لتمرير أجنداته الخاصة، وكيف يسمح له ضميره أن يتمسّح بدماء حجاجٍ ذهبوا لملاقاة ربهم، حاجين محرمين ملبين في أطهر بقاع الأرض، لأغراض دنيئة، سرعان ما تبيّنت لمعظمنا بوضوح في مواقف سياسية رسمية لاحقة.

رحم الله من قضى نحبه في تدافع مشعر منى، وتقبّله من الشهداء، والدعاء بشفاء المصابين، وحفظ الله الحرم وبلاد الحرم ورجال الحرم من كل سوء... ومن تربّص المتربصين.

"العربي الجديد"