الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٠ صباحاً

انبجاسات مستقبلية يمانية

عمر عبد العزيز
الاربعاء ، ١٦ ديسمبر ٢٠١٥ الساعة ٠٣:٢٦ مساءً
كلما اختلطت الأوراق في اليمن ، استطاع المراقب الحصيف استطلاع خريطة الطريق المستقبلية وتحديد معالمها الرئيسية، وتبين تلك الخريطة مشروعين أساسيين: مشروع وطني جامع يتأسى بالوحدة على قاعدة التنوع، ويرى في النموذج الاتحادي الفيدرالي مخرجاً لليمن، ودرباً سالكاً للمستقبل الواعد، ومشروعاً رعوياً مناطقياً يصل إلى حد الفئوية العرقية والطائفية الواهمة، ويبحث عن نموذج يستقيه من التاريخ والجغرافيا المجافية للمكان وشروطه، وللزمان واستتباعاته، ويرى هذا المشروع إمكانية، بل ضرورة استعادة الإمامة التاريخية اليمانية، بقالب إيراني يعتمد نظام ولاية الفقيه من طرف خفي، ويبقي على اسم الجمهورية كلازمة ( تبرئة ذمة ) أمام الذاكرة الوطنية اليمنية.

لكن المشروعين سالفي الذكر ليسا محكومين دوماً بالإخفاق الميداني والعجز السياسي إلا إذا ما تخلى طرف منهما عن ميزاته وقوته النسبية، وإذا كنا نعتبر المشروع الاتحادي الوطني مقروناًِ بالميزات الفاضلة، ومتناسباً مع اليمن وتضاريسه المجتمعية.. إلا أن هذا المشروع الذي تمثله الشرعية الراهنة محكوم عليه بالفشل إذا لم يقبض على المعنى الكبير للخيار الوطني الاتحادي، وارتكس إلى حضيض الاستعادة النمطية لنظام صالح الفاسد حتى النخاع، ذلك الذي ظل مقيماً في الفئوية الرعوية الضيقة رغماً عن شعارات سبتمبر وأكتوبر في الشمال والجنوب.
ما يحدث الآن على الأرض يكشف مدى التراجع السياسي للأحزاب التي يمكن توصيفها مجازاً بالأحزاب العصرية الخارجة من رحم المشروع الوطني العابر للعشيرة والقبيلة والمنطقة، وتتمثل حصراً في التيار المؤتمري الأكثر ميلاً للحداثة، وكذا الحزبين الاشتراكي والناصري، وينتظم فصيل شبابي فتي من حزب الإصلاح في ذات القابلية الوطنية العابرة للمناطقية الاستيهامية الضيقة.. غير أن الساحة لم تعد حكراً عليهم جميعاً، فقد انبرى الحوثيون لمعادلة الفعل، وبارتكاز حاسم على الأيديولوجيا الدينية المذهبية المقرونة بفتوّة شبابية مفتونة بالوعود الأخروية والصكوك الغفرانية التي يمنحها الإمام المعصوم الجديد القابع في كهوف التاريخ، وبالمقابل ينبري الدين السياسي بشكله السني السلفي الأكثر راديكالية من خلال جناحي القاعدة وداعش ، العابرين معاً لكامل الجغرافيا المكانية والزمانية اليمنية، وحتى العربية، فهذا المشروع الداعي لإقامة الخلافة المزعومة ينطلق من ثقافة العنعنة والتدوين التاريخي السياسي الديني، ويجد الفضاء الحر لانتشاره في بيئات الفقر والإحباط التي صنعها النظام العربي خلال عقود من بؤس الإدارة والتسيير، ويحتفظ بقدر كبير من الفتوّة المندفعة، والمقرونة بمبادآت براغماتية تجيز أعتى صنوف المناورات.

وعلى مرمى حجر من ثلاثي الحوثيين والقاعديين والداعشيين سنقف على افتراضية هذا التصنيف، فهؤلاء جميعاً يلتقون موضوعياً، وإن تخاصموا ظاهرياً، فما ينجزه القاعديون ميدانياً يثلج صدور الحوثة وأنصارهم، وما يفعله صالح وحوثيوه يمنح فرصة مثالية للقاعدة ومن كان على شاكلتها.

وعلى مرمى حجر من هذه الوقائع يتموضع حزب الإصلاح.. متعدد الحراب والمنابت، ليقدم نفسه بوصفه الفصيل المقاوم الأكثر تنظيماً وتماسكاً، كما تبين من معارك عدن وتعز، وهو الأمر الذي يضع قوى الحداثة الافتراضية أمام مأزق كبير، فهذه القوى الممثلة في المؤتمريين الناصحين، والاشتراكيين الراكزين، والناصريين القوميين، تتخلى نسبياً وتباعاً عن تماسكها التنظيمي، وعقيدتها الكفاحية المتنوعة، وحضورها الفاعل في مشهد المستقبل الذي يرتصف تحت أسنّة الرماح وقعقعة المدافع.
هذه الخريطة التقريبية لفرقاء الساحة السياسية اليمنية لا تستبعد القوى الجديدة الناشئة والتي قد تنبثق من دياجير الظلام بين عشية وضحاها، لكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة بالبنان لإخفافات منظومة الشرعية الهادوية ( نسبة إلى هادي ) في تدوير الملفات السياسية المعقدة بروحية موازية للتضامن الشعبي ودعم الحلفاء العرب.
ما زلت شخصياً أحسن الظن بالرئيس هادي القابل بنتائج مؤتمر الحوار الوطني، والمتمسك بمرئيات المبادرة الخليجية الرشيدة، والمنتظم في أساس الشرعية الوطنية المقبولة عربياً ودولياً، لكن هذه الحقائق الدامغة بحاجة عاجلة وملحة إلى تسييج عملي، يبدأ بتحرير تعز، وردم الفراغات القاتلة في المناطق المحررة، وتدوير مؤسسات الدولة بالقدر المتاح من الإمكانات، واتخاذ تدابير إجرائية تكاملية تستعيد هيبة الدولة وسلطانها على الأرض.

* الخليج