الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٥٣ مساءً

قراءة ثالثة للمشهد اليمني

عمر عبد العزيز
السبت ، ٠٢ يناير ٢٠١٦ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً
القراءة في محتواها الأصيل تعني الاستغوار في نص ما، وقراءة ما يفيض به من معانٍ وتداعيات، وقد يلتبس المُتلقي بالقراءة حد التماهي التام مع النص، فيكون في هذه الحالة مخطوفاً عن ذاته العاقلة الرائية الباصرة، وقد يحتفظ بمسافة إجرائية بين النص وذاته المستبصرة، وفي هذه الحالة يرى الأشياء بعدسات حاذقة نابهة.

لا ينطبق هذا المفهوم على القراءة المجردة للنصوص، بل على استقراء وقراءة الظواهر المختلفة، وخاصة المشاهد المجتمعية المحمولة على روافع واقعية أو افتراضات ذهنية، وهنا نستطيع القول إن استكناه جوهر المشهد أمر نسبي.. تتفاوت فيه الحظوظ، وتتقاطع فيه المفاهيم، وتتباين حوله الرؤى والمقاربات، فقد يرى البعض أن حسن المشهد وجماله يكمنان تماماً في وجود ما يجاوره من قبيح، تداعياً مع قول الشاعر: والحُسن يظهر حسنه الضد.. وقد يرى آخرون ما يراه علماء جمال الشكل الذين يعتدون بالتباينات ويعتبرونها من حوامل الجمال، ففي اللوحة يرفع التضاد أو «الكونتراست» من القيمة التعبيرية للعمل الفني، وفي الأداء الَّلحني يرفع التضاد النغمي (كونترابونكت) من القيمة التعبيرية للموسيقى، وبهذا المعنى يحمل الشيء وضده الجوهر الكامل للجمال والجلال. يكفينا مثلاً في هذا الباب ما ذهب إليه الفيلسوف الرازي في «رسالة الألوان»، وما مارسه الفنان رمبرانت في أعماله التشكيلية الرفيعة، من إمعان في استخدام التباينات اللونية الصاعقة، وما اقترحه الفنان موندريان في لعبة الألوان المتضادة والمتكاملة في آن واحد.

المقدمة التي أوردتها حول ضرورة الآخر النقيض أو المغاير يجرنا إلى تأمل المشهد السياسي اليمني الذي انضم فيه فرقاء الساحة على مستويين: الأول يؤيد الشرعية المستمدة من الدولة السابقة على الصراع القائم، وغيرهم الذين يتحدثون عن «شرعية ثورية» لم تثبت أي صلة منطقية بمعنى التغيير وأبعاده.

القائلون بالشرعية المستمدة من الدولة السابقة على الصراع هم الذين يقبضون على شرعية «ثورة 26 سبتمبر» لعام 1962م.. التي استبدلت نظام الإمامة الزيدية في شمال اليمن بنظام جمهوري، وشرعية «ثورة 14 أكتوبر» التي حلت محل الوجود البريطاني في عدن، وشرعية وحدة مايو لعام 1990م التي أخذت بالتعددية السياسية وكرَّست فقه الجمهورية، وشرعية الدستور الذي جاء بالتوافق، وشرعية المبادرة الخليجية التي اختزلت وكرَّست كامل الشرعيات السابقة، وكانت ذروتها شرعية مخرجات مؤتمر الحوار الوطني بوصفها الترجمان الأشمل لمرئيات المبادرة الخليجية، وبرناجها المُزمَّن، وصولاً إلى الشرعية العربية والدولية ممثلة في قرار مجلس الأمن رقم 2216 والمُجيَّر على البند السابع.

في المقابل، يقول الحوثيون بالشرعية الثورية التي لم تقدم حتى اللحظة أي دليل واقعي عليها، فشرعية الحَوثة «الثورية» ترفض ثورتي سبتمبر وأكتوبر في شمال وجنوب اليمن سابقاً، وثوريتهم تريد إعادة استنساخ نظام ولاية الفقيه الإيراني، بنسخة يمنية مشوهة، وثورية الحوثة تلهج بالمساواة فيما تمارس فرزاً طائفياً عائلياً في محاولة استحالية لتكريس الإمامة التاريخية «الجارودية» في صورتها الأكثر مفارقة للعصر ونواميسه.

من هنا تنشأ المفارقات في الرؤية تجاه المشهد، وقد لاحظتُ شخصياً أن المراقبين للمتغيرات في الساحة اليمنية يلتبسون بتفاصيل الوضع حد الاستغراق المحكوم بالتشوُّش في الرؤية، والتضبب في الإمساك بالمفاصل الرئيسية للأزمة، وصولاً إلى فقدان الحكمة، فالكثيرون يتشيَّعون لهذا الطرف أو ذاك، مُتناسين أن شرعية عبدربه منصور هادي غير منفصلة عن صلب البيئة السياسية العامة للنظام السابق، وبالمقابل لا ينسجم تحالف صالح والحوثي مع التناقض السافر بين أقوالهم المعلنة، وأفعالهم الشائنة، وأن الطرفين (صالح والحوثي) يمثلان مُتَّحداً عقيماً لفاقدي الحجة والمستقبل، وأنهما ليسا على وئام كما يبدو في الظاهر.

القراءة المنطقية الواقعية للمشهد تتطلب من المراقب أن يكون خارج الصندوق المغلق المستغلق لثنائية حادة تصادمية تحمل في طيَّاتها وتضاعيفها تعددية مؤكدة، ولو بعد حين.

مثل هذه القراءة للمشهد اليمني تسمح لنا بقياس المشتركات الحميدة، والمشتركات غير الحميدة، كما تسمح لنا باستقراء ضمني للمستقبل المداهم.. هنالك حيث ستتغير قواعد اللعبة السياسية لتنكشف عن تمترسات جديدة وتحالفات متجددة، كتلك التي كانت بعد حرب 1994 الظالمة، التي أفضت إلى انبثاق مشروع أحزاب التحالف المشترك لينفض بها حلف الإصلاح والمؤتمر، ويحل محله حلف جديد لم يتوقعه الحاكم بأمره آنئذٍ.

إذا سارت الأُمور بوتيرتها الميدانية والسياسية الراهنة، فمن المتوقع أن ينحل التحالف الركيك بين المؤتمر الشعبي العام (جناح صالح) والحوثيين، وعندها سنرى أن من الحكمة قراءة المُتغيِّر السياسي اليمني خارج الصندوق المغلق لثنائية الشرعية النحيلة، والانقلاب الفاشل الماثل أمامنا اليوم.

* الخليج الإماراتية