الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٥٩ صباحاً

كنا في عصر هيكل..!!

خالد الرويشان
الخميس ، ١٨ فبراير ٢٠١٦ الساعة ١٠:٣٤ صباحاً
ذه إذن شقة الأستاذ هيكل“.. قلتُ وأنا أنزل من سيارتي متأمِّلاً العمارة "الجوهرة"..هذا هو اسمها ومعي ثلاثة من زملائي الطلبة الفلسطينيين بجامعة القاهرة.. كان ذلك أواسط الثمانينيات.
لم نكن على موعدٍ مع الأستاذ، ولا كان في نيّتنا الصعود إلى شقته التي لا نعرف أيّ دورٍ تشغل في هذه العمارة التي تطل على مفترق فَرْعَي النيل الساحر جوار فندق شيراتون القاهرة.
أوقفتُ السيارة ونزلنا ثلاثتنا كي نفتح شنطة السيارة للتأكد من رقم العمارة الموجود في الصفحة الأولى من كتاب هيكل الشهير "وقائع تحقيق أمام المدعي العام الاشتراكي". وما إن فتحنا الشنطة حتى هجمت علينا سريّةٌ من الضباط والجنود مثل صاعقةٍ مفاجئة، متسائلين بلهجتهم المصرية المحبّبة: "عايزين إيه ومين، .. وقّفتوا العربيّة هِنا ليه؟".

أصابنا ذعرٌ مميت، وزادني ارتباكاً أنني تذكرت أنّ أحد زملائي الثلاثة هو ابن الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية.

ارتجّ علينا، وأظلمت سماء القاهرة في لحظاتٍ لا تُنسى، وبالكاد قلت: "نريد أن نتأكد من عنوان الأستاذ هيكل". قلتُها بعد أن تمالكت نفسي قليلاً وأشرتُ إلى شنطة السيارة.

"وتتأكد ليه، وإيه دخل شنطة السيارة يا باشا؟" تساءل الضابط وهو يتأمل الطلبة الثلاثة وقد اغتسلوا بعرق الخوف ورعشة المفاجأة.

"وحضراتكو منين؟".. تساءلَ الضابط متطلّعاً. قلتُ: "أنا من اليمن وهُما من فلسطين". ردّ مندهشاً محملقاً: "كمان؟!". "يا نهار أزرق!".. قلتُ في سرّي. كيف أشرح له أننا مجرد طلبة أحبّوا أن يروا العمارة التي يقطن الأستاذ هيكل في أحد أدوارها . . ولو عن بعد! وأنّ بداية هذا التّوْق كان عنوان الأستاذ في أحد كتبه القابعة في شنطة السيارة!

هل سيقتنع الضابط عندما أشرح له أننا كنّا في اليوم السابق قد ذهبنا إلى الحاج مدبولي في مكتبته الشهيرة بقلب المدينة، راجين أن يعطينا نسخةً من كتاب خريف الغضب الممنوع حينها، وأنّ الحاج مدبولي نزل بنا إلى قبوه السرّي وأعطانا نسخةً مصوّرةً من الكتاب.. مجرّد ملازم من الورق!.. وأننا عُدنا محمّلين ببقية كتب هيكل الأخرى ومن ضمنها كتاب "وقائع تحقيق.." الذي رأيناه لأول مرة، وفي الصفحة الأولى من الكتاب ذكر هيكل رقم العمارة 92 واسم الشارع.
"هيّ دي الحكاية يا فندم، كُلّه من كتاب وقائع تحقيق".. قلتُ وأنا أقسمُ مؤكدّاً.
"طيّب يا بشوات، أنا مش حاعمل معاكو تحقيق كمان" وابتسمَ لأول مرة! وأضاف: "بس دي آخر مرّة أشوفكو فيها هنا.. تفضلوا بالسلامة".
ولم نصدّق آذاننا.. كأنّ كابوساً من الرماد انقشع من على قلوبنا الراجفة الواجفة كأوراقٍ في مهبّ الريح!
قلت لزميليَّ: "كل هذه الحراسة من أجل هيكل! هذا عمل جميل ومشكور من الدولة".
فيما بعد عرفنا أن الحراسة تخصّ المركز الأكاديمي الإسرائيلي الذي كان يشغل شقة تحت سكن الأستاذ هيكل مباشرةً ولسنوات!..
يا للمفارقة! هذه أذيّةٌ مباشرة ومقصودة كجزء من الحرب النفسية عليه!.. لكنّ هيكل كان يضربهم بالمدفعية الثقيلة إذْ أصدرَ أهمّ كتبه حول الصراع العربي الإسرائيلي في هذه السنوات نفسها قبل أن ينتقلوا إلى مكان آخر!
بعد سنوات.. وبعد تخرّجي من الجامعة، دخلتُ شقّة الأستاذ هيكل.. وبلا حراسة هذه المرة، لأنّ سريّة الشرطة كانت قد غادرَت بعد أن غادر الإسرائيليون الشقة إلى مكانٍ آخر!
كانَ اللقاء الأول بهيكل مدهشاً مفاجئاً. الدهشة لتفاصيل وملامح أراها وأسمعها وأتأمّلها لأول مرة.
والمفاجأة لاكتشاف بعضٍ من معالم هذه الشخصية المشعّة الباهرة.
ورغم أنني كنتُ قد قرأت معظم كتبه، وتابعتُ ووثّقتُ معظم حواراته ولقاءاته الصحفية، إلّا أن ذلك لا يُغني عن لقاء الرجل ومُتعة الجلوس إليه، وفائدة الاستماع له.. وهكذا كان.
كنتُ متشوّقاً مَشُوْقَاً، إذْ أنّ هيكل في عام 2000م لم يكن قد بدأ تعامله الدائم مع بعض القنوات الفضائية.
لذلك كان حماسي للقائِهِ كبيراً، وعن محبةٍ وإعجابٍ شديدَيْن بالشخصيةِ أولاً، وثانياً! ثم تأتي مسألة الفكر الذي يمثّله هيكل، والذي يشاطرُهُ فيهِ العشراتُ من المفكرين العرب.. لكنّ النادر والأهم في رأيي هوَ هذه الشخصية بمعالمها الظاهرة والخفيّة.
لذلك، كنتُ مَشُوْقاً للقاء الرجل.
وفي موعدي تماماً –العاشرة صباحاً- كنتُ أمامَ تلك العمارة التي رأيتُها ذات يوم قبل ثلاثة عشر عاماً أيّام دراستي بجامعة القاهرة أواسط الثمانينيات.
ولَمَعَ اسم العمارة المنحوت في ذهني، قبل أن أراه أمامي على باب العمارة الكبير.. عمارة "الجوهرة".
كان هيكل يشغل الدور الخامس كاملاً بجناحيه: السكن، والمكتب. هتفتُ في سرّي وأنا أعبرُ باب العمارة الكبير.. يا للاسم، ويا للمسمَّى!
وينفرجُ بابُ المصعد أمام باب شقّة هيكل عن صور عديدة لهيكل مع بعضٍ من زعماء العالم وقد وُضِعَت على الحائط بين بابَي سكنه ومكتبه. أي على السلّم!
صوره مع زعماء العالم خارج شقّته!
يالاعتداد الرجل بنفسه!
"إنّهُ هيكل" قلتُ في نفسي وأنا أدخل بابَ مكتبه!
استقبلني منير عسّاف مدير مكتبه، ومشى أمامي باتجاه الأستاذ الذي كانَ واقفاً قُبالةَ بابِ مكتبِهِ الفسيح المُطِلِّ على النيل.
ها هو ذا هيكل أمامي، بإطلالتِهِ القمحيّة وابتسامتِهِ العريضة....
وللحديث بقيّة,,