الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٣ صباحاً

اللهو الخفي الذي قتل ناهض حتر

مروان الغفوري
الاثنين ، ٢٦ سبتمبر ٢٠١٦ الساعة ٠٤:٣٥ مساءً
سخر الرازي من العقائد في "مخاريق الأنبياء"، لكن أحداً لم يتهدد حياته بالموت. كان يعيش في بغداد، يعمل طبيباً وساخراً عظيماً ليس من المؤمنين وحسب، بل من الرسل. لكنه، بذكائه المُعتاد، كان صديقاً للسلاطين، تاركاً الخوض في مسألتي العدالة والحُكم. بذلك، كما توقع تماماً، نجا من تهمتي الزندقة والفسوق وعاش ردحاً من الزمن على خلاف الحلاج.

فقد قتل الأخير زنديقاً، في محاكمة شهيرة استمرت ثمانية أيام، لأنه قاد ثورة تقول واحدة من وثائقها التي كتبها بيده "آن أوان الدولة الهاشمية الغراء المسنودة بأهل الأرض والسماء". لم يكن الحلاج ضحية فكر، بل صراع طبقي، كما يرى الراحل هادي العلوي. كان الحلاج أكثر إيماناً من الرازي، لكنه اختار الطريق الأقل أمناً فقصُرت حياته.


في يوم ما قرر بن برد أن يضع حداً لحياته فراح إلى واحد من مساجد البصرة وقال قصيدة يسخر فيها من الحاكم، فقتله المهدي بتهمة الزندقة. عاش ابن الراوندي في المشرق العربي 84 عاماً، وكان يسخر من الإله والأنبياء ويعيش في وسط المجتمع المسلم، يمارس البيع والشراء والمشي. ترك ابن الراوندي المسألة السلطانية، وراح يغرق في السخرية من "فضائح المعتزلة" أولاً، ثم من الأديان فوق ذلك. ربما تعرض لبعض التضييق، كما تقول روايات تاريخية، لكن حياته بقيت في مأمن. فلم يجد سلاطين الدولة العباسية في "لاأدرية" ابن الراوندي ما يهدد استقرار دولتهم. فالإله ليس واحداً من عناصر الدولة العربية منذ انتهى العصر الراشدي بمقتل الخليفة الثاني.

كان ابن رشد، عاش في القرن السادس الهجري، يدرك المعادلة الحرجة "الإله والسلطان في الدولة العربية". وقد ساعده إدراكه ذاك على أن يمضي الشوط الأول من حياته بأقل قدر من الألم. اقترب من سلاطين دولة الموحدين، ومؤسسيها. مع الأيام استحوذ عقل بن رشد على الآباء المؤسسين للدولة تلك ونسيَ الطبيعة النارية لمعادلة الإله والسلطان.

في ترجمته لجمهورية أفلاطون، وهو لا يزال قريباً من الأمير المنصور، انطلق ابن رشد متحدثاً عن "الضروري في السياسة"، وعن الجمهورية الفاضلة التي لم تعد تجد مثالها في دولة الموحدين، دولة صديقه المنصور. قال صراحة، وتلميحاً، إن دولة الموحدين تمثل انقلاباً طغياناً عن الجماعية "الديموقراطية"، وأن ثمة صعوداً متزايداً لحكم "البيوت" لا الشعوب. لم يمض سوى وقت قصير على إنجاز ابن رشد لكتابه حتى كان قرار نفيه قد صدر. سبقت ذلك القرار اجتماعات كثيفة بين الأمير والفقهاء انتهت باتهام ابن رشد بالزندقة والإلحاد، والقول بألوهية "الوردة".

حكم على المثقف الأشهر بمغادرة مدينة قرطبة ليس انتصاراً للإله ضد الوردة، بل لشيء آخر. فقد عُثر في واحد من كتبه على قوله إن البيت الحاكم في قرطبة يقسم المسلمين إلى "جمهور وسادة". وربما لأنه، أيضاً، سخر من الملك، حفيد النبي، قائلاً إنه ملك البربر.

تبدو القصة متشابهة، فمحنة المثقف العربي في تاريخه الإسلامي تمشي وفق ميكانيزم وحيد. فالعائلة المقدسة، بتعبير ماركس، تترك المثقف ليفكك الوجود والعدم بالطريقة التي تحلو له. لكنها سرعان ما تهب للدفاع عن المقدس الديني عندما يقترب المثقف من أسوار قصر الملك. فالنهاية الدرامية التي انتهت بها حياة بشار بن بُرد، وهو واحد من أهم الأصوات الشعرية في التاريخ العالمي، لم تحد عن هذه الآلية.

عاش الشاعر العربي الأشهر سبعة عقود في البصرة، تغزل بالنار والفناء، واقترب من الإله ومن الشيطان، تجلى الحق والخراب في شعره، وصار يقول الإيمان ونقيضه، يعزز إيمان الجماهير ويقوضه، ولطالما قيل عنه إنه زنديق. لكن زندقته تلك لم تجلب عليه الأذى، ولم تمنعه من عطايا الخليفة المهدي.

في يوم ما قرر بن برد أن يضع حداً لحياته فراح إلى واحد من مساجد البصرة وقال قصيدة يسخر فيها من الحاكم، فقتله المهدي بتهمة الزندقة.

وهي محنة لا تزال قائمة بأدواتها، آلياتها، ومآلاتها. فالنظام العربي يتواطأ مع التيارات السلفية، وبمقابل الاحتفاظ بولائها يمنحها الضبطية الأخلاقية والقضائية في المسألة المتعلقة بالثقافة. وهو تفويض بارد، ورجراج، يصل حد غض الطرف عن عمليات الاغتيال لأسباب دينية أو إرسال إشارات تقول إن السلطات تبدي قدراً من التفهم، كما جرى مع ناهض حتر.

استجابت السلطات القضائية لضغط التيارات السلفية وزجت بالكاتب الأردني في السجن لشهر كامل، قبل أن تطلق سراحه وتستدعيه من جديد. شيئاً واحداً وجوهرياً تجاهلته السلطات الأردنية: الخطر الحقيقي الذي يتهدد حياة الرجل. فلم تبد السلطات عناية حقيقية بحراسة حياته، ولو كمقابل مادي لالتزام المثقف المعروف بالمثول أمام القضاء.

خلال الأعوام الثلاثة الفائتة، في مصر، صدرت أحكام قضائية قاسية ضد مثقفين شباب بسبب مقالات أو نصوص روائية. استخدم السيسي الآلة التي أراد نظام مرسي استخدامها قبل سقوطه. فقد اقترح مرسي مرجعية عُليا، فيما يشبه المجلس الكاتدرائي، يمثل الأزهر رأس حربتها، وستكون مهمتها النظر في المسائل الداخلية المتشابكة، وفي طليعتها المسائل الفنية والثقافية. استلم نظام الجيش الفكرة، ومنح تلك الضبطية للأزهر والتيارات السلفية بحسب الحاجة. ربما كانت تلك هي الحقيقة التي فضل محمد بن سلمان، نجل ملك السعودية، النأي عن الحديث عنها عندما قال للصحفي تركي الدخيل إن تطلعاته الثورية لا يمكنها الاقتراب من مسائل بعينها في السعودية.

لم يكن ناهض حتر من المثقفين الذين تفكر السلطات الأردنية بدعوتهم لحضور الاحتفالات الرسمية أو الخاصة. ذلك هو الجزء الخفي من "الزندقة" التي تستحق العذاب. فالزندقة، في التصور السلطوي العربي، كانت على الدوام النأي عن الدائرة الحاكمة، عن السلطانية الطغيانية، إذا ما استعرنا من بن رشد، أو محاولة إزعاجها.

فالمثقفون السودانيون يرون، منذ الثمانيات، تلك النكتة التي تقول إن النميري علق على إعدام محمود طه بالقول إنه صبر على الرجل كثيراً، صبر على افترائه على السنة، ثم إشراكه بالإله، ثم عبثه بالقرآن، لكن الأستاذ طه استمرأ خطاياه فوصل به حد إهانة النميري شخصياً.

السلطات القضائية تجاهلت دفاع الرجل هم موقفه بإنه كان يحاول تنزيه رب البشر عن رب الإرهابيين. اعقتلته السلطات معطية إشارة واضحة تقول إن إدانته قيد الاكتمال. كما حدث في التاريخ العربي، وكم سيحدث لزمن طويل، لم تكن مشكلة محمود طه في حديثه عن الإله بوصفه الإنسان الكامل، وهي الفكرة التي غمرتها الطلائع الأولى للصوفية بمياه الشعر والنثر، وتسيد أبو يزيد البسطامي واجهتها. لم يُمس البسطامي بأذى، فهو لم يضف إلى تلك العقيدة الواحدية كتاباً عن "الفكرة الجمهورية" كما فعل محمود طه.

عندما صارت حياة الرجلين، طه والنميري، جزءاً من الماضي أصدرت المحكمة الدستورية في السودان حكماً تاريخاً أسقطت بموجبه كل الأحكام التي صدرت بحق المجني عليه "محمود طه" واصفة إعدامه بجريمة القتل. بين قراري المحكمتين عام واحد، انتقل فيه موقف السلطات القضائية من القول إن محمود طه كان زنديقاً يستحق القتل "حداً وتعزيراً اقتداء بما فعله الإمام علي بن أبي طالب"، طبقاً لكلمات المحكمة الأولى. وبين القول إنه قتل مظلوماً.

ذلك ما ستفعله المحكمة في الأردن، أو محكمة سوف تأتي فيما بعد. فالسلطات القضائية تجاهلت دفاع الرجل هم موقفه بإنه كان يحاول تنزيه رب البشر عن رب الإرهابيين. اعقتلته السلطات معطية إشارة واضحة تقول إن إدانته قيد الاكتمال، وإن مسألة الإجهاز على حياته لم تعد شأناً قانونياً جسيماً. فهو على كل حال يستأهل الحد والتعزير معاً.