الثلاثاء ، ١٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:١٣ مساءً

لقومٍ يعقلون

محمد جميح
الخميس ، ٢٠ اكتوبر ٢٠١٦ الساعة ٠١:٠٢ صباحاً
الحل في اليمن من أسهل ما يكون لوضوح مرجعياته، ولكنه من أصعب ما يكون لانعدام الإرادة السياسية. هكذا تسخر الأيام من اليمنيين الذين بدأت بلادهم تدخل سجل الدول التي تضربها المجاعة في العالم.
يطل إسماعيل ولد الشيخ أحمد مبتسماً، يبعث على قليل من الأمل، قليل من الخدر اللذيذ الذي يملأ بطن طفل من الحديدة برائحة خبز لا تأتي، ويداعب عيون طفلة في صنعاء بطيف منام لا يجيء. أتذكر تصريحاً لولد الشيخ قبيل عقد جولة المحادثات الأولى في جنيف، كان ولد الشيخ يحاول أن يضخ شيئاً من الأمل في النفوس التي أنهكتها الحرب، وجاءت وفود الأطراف المتصارعة إلى جنيف، لكنها أحضرت معها الحرب إلى الفندق، وتقاذفت بالكلمات من غرف الفندق التي رأت هذه الوفود فيها امتداداً لمتاريسها ونقاطها الأمنية، ورجع ولد الشيخ بخفي حنين، ورجعت الوفود بمزيد من الخسران. البلد العظيم الذي ذكر في معظم كتب التاريخ، والذي لا تخلو من ذكره صفحات السماء، والذي مر على مخيلات الشعراء والنبيين، وقصده المغامرون والسياح لاكتشافه، «اليمن السعيد» يتحول إلى كومة من أحلام مهشمة، ينفضها تجار الحروب وباعة الشعارات الدينية في وجه جمهور مل كل أنواع الشعارات، لأنه يذهب كل مساء إلى النوم بجوعه وكوابيسه.
ابتلى اليمنيون اليوم بطبقة سياسية من وزن خفيف، طبقة انتهازية، تعيش على جوع ذلك الصنعاني العزيز الذي ضبط متلبساً يدس يده في صندوق القمامة، وحين ضبطته عدسة الكاميرا ولى هارباً، كأن تاريخاً من العار يلاحقه، قبل أن يندس في الشوارع الخلفية لمدينة سام، ويدخل في غياهب الجوع والحرمان والنسيان. موظفو الدوائر الحكومية لم يتقاضوا مرتباتهم منذ شهور، والأسر الميسورة تبيع أثاث البيوت خلسة من الجيران، وأموال البنك المركزي اليمني هربت إلى محافظة صعدة، وقناة «المسيرة» الحوثية، في جانب من شاشتها تفاخر باستمرار صرف المرتبات في الحرب، مع أن القناة لا تذكر أن أكثر من خمسة مليارات من الدولارات تبخرت من البنك، وذهبت إلى محافظ مصرفية موازية، لصالح الحوثيين، حسب تصريحات محافظ البنك المركزي ابن همام.
أما الطرف الآخر، فعلى الرغم من أن القرارات الدولية في صالحه، ورغم أنه يقف على أرضية صلبة من المشروعية السياسية، إلا أنه لم يكون على مستوى الحدث، على مستوى جراح اليمنيين. لم يكن هذا الطرف على مستوى الشرعية، ولم يتمكن من إقناع قطاعات واسعة من اليمنيين بقدرته على قيادة المرحلة.
في الحكومة -على سبيل المثال – شخصيات فحصت الأمر جيداً، ونظرت إلى الحوثيين وصالح من ناحية، وإلى هادي والتحالف العربي من ناحية أخرى، رأت أن مصلحتها مع هادي وحكومته، فانضمت إليها لا لاستعادة الشرعية، ولكن للحفاظ على مكاسبها المادية، التي تحصلت عليها بفعل الحرب، وهي لا تختلف كثيراً عن تجار الحروب في صف الحوثيين الذين تسببوا في كارثة اليمنيين المعاصرة، ومأساتهم التراجيدية. يحدث أن تُصنع قلوب الساسة من الحجر الصوان، يمكن أن تصدر عنه أصوات جميلة بالطرق عليه، يمكن أن تصنع منه تماثيل رائعة، لكنه في الأخير حجر لا قلب له ولا شعور. إن كان من خير في هذا المشهد التراجيدي في اليمن، فهو سقوط الشعارات، يمكن للمؤرخين فيما بعد أن يسجلوا معالم هذه المرحلة في اليمن، يمكن أن يسموها مرحلة مفصلية، يطلقوا عليها «عهد سقوط الشعار». الشعارات تتهاوى واحداً بعد الآخر، شعارات الجمهورية والوطنية والقومية والدينية كلها سقطت في الامتحان، لا لأنها فاشلة بل لأن الذين رفعوها لم يكونوا يفهمون «الفباء» القيم والمثل والأوجاع التي تعانيها أم تقول لطفلها الجائع إنها ستخرج لإحضار الطعام كل ليلة، توهمه بذلك لتعود وقد نام، قبل أن تعود في الليلة الأخيرة لتجده جثة هامدة (لا تتصوروا أن هذا حدث روائي، هذه قصة حقيقية حدثت ذات ليلة في تعز)، حيث بدأ الناس في ريفها يأكلون أوراق الأشجار اليابسة. ليس لدى الكاتب من أدوات التأثير إلا الكتابة، أحياناً يجعلها تبكي مع الجوعى والأرامل والأيتام، وأحياناً يفتحها على القليل من «التحليل السياسي»، ومعظم الأحيان يرسلها كرات من نار كلما ظهر ساسة بلاده في مؤتمر صحافي مرتب بعناية ليبيعوا اليمنيين مزيداً من الوهم والمرارة والدين الكاذب.
الحل في اليمن سهل جهة وضوح مرجعياته، ولكنه صعب جهة انعدام «الإرادة السياسية»، وإذا استمر غياب الإرادة السياسية، فإن الخوف أن يدخل الصراع في اليمن مرحلة التدويل بتدخل قوى دولية يصبح اللاعبون المحليون بتدخلها مجرد بيادق على الرقعة المحترقة، أو أن يدخل الصراع في اليمن «مرحلة النسيان»، حيث يتقاتل اليمنيون، وتطمر الرمال جثامينهم، بدون أن تلتفت إليهم القوى التي ستكون منشغلة بملفات كبرى في المنطقة والعالم. ومع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فإن المطلوب إعادة النظر إلى أهداف الهدنة، يجب أن يكف المتصارعون عن النظر إلى الهدنة على أساس أنها استراحة محارب، يتم خلالها التزود بما يحتاجونه للجولة المقبلة، يجب أن تنظر الأطراف المتصارعة إلى الهدنة على أساس أنها فرصة لتحقيق السلام في البلاد، وإذا ما تم النظر إلى الهدنة من هذه الزاوية، فإن الهدنة ستنجح، وأكثر من ذلك فإن محادثات إنهاء الحرب ستجلب السلام. على الأطراف اليمنية المتصارعة ألا تنس أن الوصول إلى السلطة لن يكون بالغلبة العسكرية، ولكن بـ»الانتخاب الشعبي»، وعلى ذلك فإن هذه الحرب التي نعلم جميعاً أنها ضرب من «الصراع على السلطة»، ليست أكثر من محاولة عبثية للوصول إلى هدف لا يمكن أن يتحقق بها. اليمن بلد يصعب حكمه بقوة السلاح، لأن كل الأطراف مسلحة، ولو تصورنا غلبة طرف معين بقوة السلاح في مرحلة من المراحل، فإن الأطراف الأخرى ستبدأ الإعداد للجولة المقبلة منذ اليوم الأول لهزيمتها. لنا في تاريخنا عبرة، ولنا في حاضرنا أكثر العظات.
وفي عالم يقف اليوم على حافة الحريق، فإنه حري بأهل اليمن أن يدركوا أنه ليس من مصلحتهم أن يكونوا جزءاً من لعبة عالمية يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية، على مسرح مهيأ لاستمرارها ما لم يتنبه المتصارعون على كعكة قد تضيع منهم لصالح أطراف إقليمية ودولية لا تبقي لهم منها نصيباً.
نريد اليوم رجالاً يليقون بتاريخ هذه البلاد، لا نريد ساسة انتهازيين يتسببون في معاناة اليمنيين، ثم يتاجرون بها في المحافل الدولية، والمنابر الإعلامية، والمزادات الداخلية، لرفع أرصدة سياسية تنطوي على الكثير من عمليات غسيل الأموال والصفقات المشبوهة والتزوير.
أخيرا: هناك من يريد وقف الحرب لينتصر، وهناك من يريد استمرارها لينتصر. عندما تتغير هذه المعادلة سينتصر الجميع، ويحل السلام.
«لقوم يعقلون»