الثلاثاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٣٧ مساءً

الحوثية في عربة الموتى

مروان الغفوري
الاثنين ، ٢٣ يناير ٢٠١٧ الساعة ٠٨:٣١ مساءً
في العام ٢٠٠٤ حدثت أول حرب بين الجيش والحوثيين في جبال صعدة. انهزم الحوثيون، وقتل مؤسس الحركة الجهادية "حسين الحوثي". في ذلك العام، والذي يليه، عمل صالح على حشد كبار المرجعيات الزيدية/ الهاشمية في كرنفالات مصغرة. كان يجلس واضعاً ساقه اليمنى على اليسرى، يتشاغل أحياناً بتوقيع بعض الأوراق، تاركاً للعلماء الفرصة لإلقاء خطابات قصيرة. في واحدة من تلك المناسبات، يمكن الرجوع إليها على اليوتيوب، يقف عالم زيدي كبير مخاطباً صالح: الحوثي فتنة لا بد من القضاء عليها. على طريقة أبطال الملهاة كان مشائخ الزيدية يتناقلون المايكرفون، الواحد بعد الآخر، ثم يجلجلون: اقضوا على هذه الفتنة، الحوثية لا تمثل أحداً.
كان العلامة محمد المُطاع من الذين قالوا، مبكراً، بخروج الحوثي عن إجماع الأمة، بما يعني ضمناً خروجه عن الإسلام. أدخلت فتاوى علماء الزيدية السرور إلى قلب صالح، فهو الرجل الذي يقدم نفسه بوصفه راعياً لمصالح رجال المذهب، ورجال السلالة الهاشمية معاً. ضمن ذلك التقدير تعتبر حركة الحوثي عبثية، لا حاجة لها. فالنظام السياسي الذي أسسه صالح، مستعيناً بالهاشميين الملكيين، كان قد ضمن مصالح الثالوث: القبيلة الزيدية، المذهب الزيدي، والسلالة الهاشمية. أعاد صالح هيكلة الجمهورية لتصبح، مع الأيام، جمهورية بالمقاييس الإمامية. داخل تلك النسخة الجمهورية كان الحوثي يشكل خطراً للترتيبات المستقرة، ولمصالح النظام ثلاثي الأبعاد. لم يقاتل صالح كرئيس جمهوري، ولا دفاعاً عن الجمهورية. خاض ضد الحوثي ستة حروب حول من يملك الحق في تمثيل ورعاية مصالح القبيلة والمذهب والسلالة.
مثلت ١١ فبراير،٢٠١١، انقلاباً شاملاً على كل التواطؤات التاريخية، وهددت في جوهرها كل المصالح التي اكتسبتها الإمامية من اختراقها للجمهورية. تغيرت قواعد اللعبة لدى النظام السياسي، وصار المنشق الحوثي مطلوباً للخدمة. لقد بدا إن مصالح عائلة صالح ليست فقط من سيجني الخسارة، بل المذهب والسلالة والقبيلة. قدمت الثورة خطاباً مبدئياً حول توزيع السلطة والثروة، وإعادة صياغة النظام السياسي ليصبح قادراً على استيعاب حركة الشعب واتجاهاته في كل البلاد، وليكونَ في متناول كل الفئات والأفكار والاتجاهات. تلك هي الخسارة الجسيمة في تقدير الثالوث الحاكم: السلالة الهاشمية، المذهب، والقبيلة المتمذهبة.
شهد العام ٢٠١١ ذروة انتصارات الحوثي العسكرية. بينما انصرفت كل القوى الشبابية والسياسية إلى ميادين الثورة كان صالح يسلم ترسانة عسكرية كبيرة إلى جماعة الحوثي، وتلك استطاعات في ذلك العام اقتحام مدينة صعدة والسيطرة عليها، كما اتجهت إلى الجوف وحجة واقتربت من عمران.
كما اخترق الحوثيون الجمهورية فقد اخترقوا ثورة فبراير. بنوا خياماً لم ترفع علماً جمهورياً. كانت خيام الحوثيين هي المكان الوحيد الذي لا يُعزف فيه النشيد الوطني، ولا ترفع فيه ألوان الجمهورية الثلاثة. بدلاً عن ذلك كانت صورة عبد الملك الحوثي تأخذ مساحات كبيرة في خيام "الثوار الحوثيين"، وتحتها وفوقها كُتبت كل العبارات الدينية التي تتحدث عن اختيار إلهي لعبد الملك الحوثي ليكون سيداً على كل الناس، وحاكماً لهم. كانت تلك هي المساهمة الزائفة للجماعة الحوثية في ثورة ١١ فبراير.
صرف صالح الأنظار عن الحوثيين عبر تسليمه أبين وشبوة إلى تنظيم القاعدة. التقرير الذي قدم إلى الأمم المتحدة، من قبل لجنة أممية مختصة، تحدث صراحة عن نشاط مشترك، ومنظم، بين القاعدة وصالح يعود إلى تلك الأيام. تحت دخان القاعدة تحرك الحوثيون. حصلوا على المزيد من السلاح، وتسلموا مزيداً من المُعسكرات. الطبقة الهاشمية النصف ـ حاكمة في صنعاء شكلت غطاء سياسياً واجتماعياً للحركة الحوثية. لم تكن الحوثية ٢٠١١ هي نفس الحركة التي أدِينت من قبل رابطة المصالح الثلاثية في العام ٢٠٠٤.
في ذلك العام، ٢٠٠٤، كانت الحوثية تهديداً عبثياً لمصالح مستقرة، بما في ذلك لمصالح آل الحوثي. لكنها بعد ذلك أصبحت مسألة حيوية. مع الأيام سيعود العلامة المُطاع، أحد كبار المرجعيات الزيدية، ليصدر حكماً بتكفير رئيس الجمهورية المنتخب. الرجل الكافر والمنشق، وكانوا يلقبونه بالأرعن قبل ذلك، منحه المُطاع منزلة المُرسل من قبل العناية الإلهية، ودعا كل محافظة لرفده بعشرة آلاف مقاتل. أما علماء الزيدية الذين استعرضوا خطاباتهم الانفعالية أمام صالح قبل عشرة أعوام، وكالوا للحوثي أكثر الأوصاف عنفاً محرضين على قتله، فقد عادوا بعد سقوط صنعاء وغيروا وضع العمامة. الوضع الجديد لعمائم المرجعيات يشير إلى الجهة الملكية، وتلك هي البوصلة التي خبأتها صنعاء لنصف قرن وأنكرت وجودها. كانت، أيضاً، تنفعل عند الإشارة إلى تلك العمامة.
بعد سبتمبر، ٢٠١٤، قرر الحوثيون الانطلاق إلى غزو باقي اليمن. إذا نظرت إلى الذين أصبحوا الحوثيين في ذلك الوقت فهم: الجيش، الأمن، كل السلالة الهاشمية من الجنرالات إلى التجار، شبكة المؤتمر الشعبي العام، والحزام القبلي الشمالي. هناك استثناءات داخل كل فئة، من ذلك النوع من الاستثناءات الخفيفة التي لا تصنع فرقاً. تشكل الجيش من الطائفة والقبيلة المتطيفة، قبلاً. بعناية فائقة وضع نظام صالح، وليس صالح وحسب، أسساً حصرية لذلك الجيش. استطاع الإخوان المسلمون اختراق أحد أجنحة الجيش الذي يقوده الجنرال علي محسن. مثل ذلك الاختراق تهديداً وجودياً لمصالح الثالوث. منع صالح تزويد "الجيش المخترَق" من السلاح الجديد منذ العام ١٩٩٤. بعد إعلان حزب الإصلاح، رسمياً، مساندته لثورة ١١ فبراير أعلن ذلك الجناح من الجيش انضمامه للثورة، وصدقت مخاوف صالح وحلفائه الهاشميين.
يمثل الحوثيون أقليلة سلالية داخل أقلية مذهبية داخل مجتمع كبير ومتنوع. ثمة معادلة كاريكاتورية تقول إن الحوثيين موجودون لكنهم غير موجودين. داخل المعسكر الذي يقاتل بوصفه "الحوثيين" لن تجد كثيرين يأبهون لعبد الملك الحوثي، لطموحاته الشخصية، أو حتى خرافاته الدينية. لقد تنكرت رابطة المصالح المعقدة، التي أشرنا إليها، في الزي الحوثي وخاضت هذه الحرب. سياسياً تسمي نفسها "اليمنيين"، وميدانياً تقول إنهم الحوثيون.
خرجت صنعاء عن سيطرة عبد الملك الحوثي واقتسمها الهاشميون وصالح والقبيلة. كان الحوثي أسرع إلى خوض الحرب من باقي شركائه، فخسر زبدة وحداته العسكرية. وراهناً ثمة حربٌ كبيرة تجري داخل محافظة صعدة في أكثر من محور، وهي حرب استدعى لها عبد الملك الحوثي جيشه الخاص. فالحرب بالقرب من مسقط الرأس يعلم الحوثي جيداً أنه لا ييجدر به أن يخوضها بجيوش تنكرية.
لا يأبه حلفاء الحوثي، بمن فيهم الهاشميون، بالعقيدة التي ترددها الوحدات العسكرية الحوثية في تدريباتها "وأن نوالي من أمرنا الله بموالاته، سيدي ومولاي عبد الملك". يأبهون لمصالحهم التي هددتها ثورة فبراير، وما قادت إليه تلك الثورة من خلخلة سياسية انتهت بكتابة دستور جديد، وبوثيقة سياسية من ١٨٠٠ مادة صُممت لتضع حداً لتركيز السلطة في جهة ما.
لا تخوض ثورة ١١ فبراير منفردة هذه الحرب، بل كل الجهات الداخلية والخارجية التي استنتجت بعد وقت يزيد أو يقل أنها كانت عملاً جماعياً بطولياً جاء في وقته. أخرجت ثورة فبراير الحوثيين من جحورهم وعرضتهم للهلاك في وضح النهار، كما ألحقت بهم عاراً وضعهم في درجة الفاشية في أسوأ تجليها. أما المتنكرون في الزي الحوثي فسيلقون أدواتهم التنكرية، في المدى المنظور، مخلقين واحداً من أكثر حقائق ما بعد الحرب إرباكاً: لقد تلاشت الحوثية، وربما منذ وقت طويل.
*مدونات الجزيرة