الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٣٦ مساءً

الجرادي يكتب عن : تؤام الروح

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
علي الجـــرادي

كان واحداً من الناس.. لكنه لا يشبه الكثير منهم، يحمل قلب طفل وعقل عبقري يصوغ الفكرة بأنامل الأديب وروح الشاعر وبصيرة المفكر.

* إذا احتدم النقاش في القضايا المصيرية قال رأيه "البصير" بسخرية لاذعة تخرس وجهات النظر المتباينة، يحتفظ بنكهة مختلفة ومميزة تجاه الأشخاص والأحداث ولديه حاسة تميز لا يلبث طويلاً في تقدير الموقف المناسب أو استقراء كنه الأشخاص، كان يقرأ السطر الأول من المقال أو التقرير ليجزم أن الموضوع يستحق الاهتمام من عدمه، يؤمن بالبدايات المشرقة ويغرق في التفاصيل الفنية ويملك لمسة سحرية تحيل المألوف من الأعمال وحتى المكرر إلى شيء جديد كأنك لم تقرأه أو تسمع به من قبل.

* "حميداً" كان يشم رائحة المواهب عن بُعد ويعطي صلاحيات لا حدود لها ويشجع وينقد بشكل لاذع ودائما ما كان يردد "اعطِ كل شخص فرصته ليثبت نجاحه أو فشله" وبذلك صنع رؤساء تحرير على صدر صحيفة "الناس".

وكانت مؤثرته المشهورة لكل محرر "أنت رئيس التحرير في صفحتك".

* من يجرؤ على نسيانك.. فقدت بعدك توأم الروح التي كنت تقولها لي.. اكتشفت متأخراً معناها حين سرى فراغ موحش في حياتي كلها.

لن أجد بعدك من يتصل بي آخر الليل ليقول لي "أنا قرفان" فنخرج نطوي ليل صنعاء وأستمع إليك عن مستقبل حياتنا الأفضل.

كنا نختلف فقط في هذه برنامج النوم لدينا مختلف عن الآخر.. لكنه كان التكامل الذي منحنا الله إياه.

* لن أنسى دمعتك ذات مساء في شتاء صنعاء تذكر "يا أستاذ" ذلك الطفل الصغير الذي كان يرتعش من البرد وهو مصّر على سؤال الناس مصروف المدرسة.. دمعت عيناك لمأساة الأطفال في اليمن السعيد ودارت في الذاكرة أسئلة كبرى..

يا ترى ما مصير أطفالنا في هكذا وطن؟!

* تذكر كيف علمتنا أولوية النشر لقضايا الناس ولأول مرة عرفت المحاكم في حياتك من أجل قضايا الناس ورفع الظلم عنهم وكان بإمكانك أن تعيش "مترفاً" وصديق ذوي النفوذ فقط.. لو أنك تخليت عن "حميد الناس" ولم تفعل.

* ماذا أكتب " يا حميد" عن سبع سنوات بأيامها ولياليها عشناها معاً تقاسمنا فيها مرارة العيش ووجع الاتهامات والشائعات وحسد الأصدقاء ونكاية الخصوم.

* تذكر الأيام العجاف وعناد روحك الذي لا تقبل الهزيمة وأنت تخاطبني قائلاً:
" اليوم البس أحسن ما لديك.."
أسأله لماذا؟
يرد قائلاً: "إحنا طفارى"..
فأقول: أجدر بالطفران.. التواضع.
فيقول: "لا تشعر بالانكسار.. البس جديداً لتشعر بحياة جديدة وأنك في وضع أفضل"

* حين نتوقف لشرب الشاهي كان يصر على مقاسمتي ذلك رغم أنه ممنوع من السكر ولا يمهلني إكماله بحجة أن الحياة قصيرة جداً.

ولطالما همس في أذني أشعر أن حياتي قصيرة...

وليلة السابع والعشرين من رمضان تواصينا بالدعاء وفاجأتني باتصالك في الرابعة صباحاً وأنت تزف إليّ خطوات قربك من الله الذي شعرت به الآن.. "الليلة دعوت لك وللزملاء كثيراً لقد ذقت لذة الدعاء والمناجاة".

آه.. يا حميد.. فهمتها الآن كانت خطوات الشوق إلى الله وكان الله.. يقربك نجياً..

* ما أغبطك عليه الساعة "أن الله اختارك في لحظة الطهر.. وبقينا لوسخ الدنيا ونكد الإصدار .. يسألني الآخرون كيف ستمضي الصحيفة وهل ستستمر بنفس النكهة.. فأحتار في الإجابة، نعم ستستمر وستتطور.. لكن "نكهة حميد" في رحاب الله.

* "حميد".. كان يوجعه الإهمال ويستذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" وتحمس لنشر الأخطاء الطبية والفنية التي أودت بحياة الناس في المستشفيات والمرافق العامة و"البلاعات" والطرقات والتوصيلات الكهربائية العشوائية.. كانت هذه الأخبار "كسقوط طفل في بيارة أو مقتل شخص بخطأ طبي أخباراً تتصدر واجهة الصحيفة.

* ليس ذلك دفاعاً عن النفس أو إحساساً مبكراً هاهو "الإهمال" كجريمة يقتلك.. باغتك الإهمال وعدم الاكتراث بحياة الناس.. لتموت وأنت خصمٌ للإهمال والفوضى.. حتى اللحظة لا زالت نقطة "الموت" في الخشم تقتل الآخرين وأطفالهم.. إنهم يواصلون العبث الذي أرقك في سنواتك المعدودة.

* لم أكترث لمزاحك الدائم بأن عمرك قصير ولم أحتط لهذه اللحظة والآن وجدت نفسي يتيماً دون الأستاذ والأخ والصديق والزميل والمعلم الروحي..

بعد الآن.. لا أحد يقلق إذا أقفلت تلفوني "ساعة" قرف ولن أتلقى رسالة "قلق" إذا عاودت الإرسال.

* أعزي نفسي بيقين يستوطن الروح "بأن مقامك بجوار الرحمن الرحيم" الذي شاء أن لا تغادر جواره أو تبارح بيته كثيراً. أما أطفالك فإن الله يتولى الصالحين "وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربك أن يستخرجا كنزهما رحمة من ربك"

* كم أنا نادم الآن.. حين لم أستوضحك عن دعائك ليلة السابع والعشرين من رمضان..

أسأل الله العظيم أن يكون من بينها أن يختم الله لي بالحسنى، وأن لا يفتنا من بعدك وأن يحيينا ما دامت الحياة خيراً لنا، وأن يقبضنا إليه غير خزايا ولا مفتونين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.