الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٢٤ صباحاً

أحداق جائعة

إلهام الحدابي
الاربعاء ، ٠١ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
فكرت في بداية الأمر أن أجعل الأمر مجرد روتين، لكن الروتين في العالم يختلف عن روتيننا اليمني، فالروتين شيء ممل بالنسبة للكثير من البشر، غير أنه في واقعنا-هنا- يصطبغ بمفهوم الألم، فالروتين هنا يعني أن ترى أكواماً من البشر يسيرون على غير هدى، والروتين هنا يعني أن تسمع أحدهم يتفاخر بفساده دون حياء، ويعني أنك تحاول وتسعى وتبني ليأتي أحمق آخر ويهدم كل ما فعلته برأي يمرره شيوخ مجلس النواب، ويعني أن نتكور في ذواتنا ونلقي اللوم كله على الآخر وكأننا أنبياء! الروتين هنا يشبه ثورتنا المبتورة التي تشبه جرحاها بابتساماتهم الرمادية...

منذ أن فتحنا أعيننا ونحن نسمع عن الفساد، ولكن فساد الأمس لا يشبه فساد اليوم خصوصاً بعد أن تم إصدار هيئة متكاملة للترويج له، والفقر في الماضي كان مجرد نقصان الكماليات إذا ما قورن بالوقت الحالي، لا زلت أتذكر جيراننا الفقراء في زمن ماضي وكيف أن فقرهم كان يعني عدم توفر الدجاج أو اللحم يوم الجمعة، أما اليوم فخبز العيش لم يعد يتوفر إلا على بعض الموائد، كثرٌ أولئك الحمقى الذين ينهكون أنفسهم بالتفكير في اختزال الفساد في صفقات الكهرباء أو الغاز أو الكهرباء، الفساد الحقيقي لا زال يعبأ حتى اللحظة، تارة باسم الدين، وتارة باسم الوطن، وثمة مسمى جديد ينتعله اللاهثون الجدد (الثورة)!

قُدر لي أن أرى الوجه الأبشع لليمن، كنت أظن أن أقبح وجه فيها هو الفساد وحسب، ولكن ثمة وجه مخيف، هل تعلمون ما هو؟ إنه وجه الإنسان اليمني عندما يُسلب حتى من كرامته، اعتدنا من المخلوع السابق الشحت على رؤوس الأشهاد من أجلنا، واعتدنا منه لغة الحرب ليستنزف جيوب الداخل والخارج دون حرمة لدماء الأطفال والأبرياء، واعتدنا منه القص واللصق وفق الحاجة بالكذب والغش والخداع، ويبدوا أنا سنعتاد وجوها أقبح منه، فما معنى أن يستمر مسلسل الذلة والشحت باسم اليمن ومع ذلك لا يتغير من الواقع شيئ! وما معنى أن نصف سكان أبين وصعدة- إلى اللحظة- يتناولون فطورهم وسحورهم في أقبية الخيام! وما معنى أن مختلف الجرائم التي تتوالى تجابه بالصمت أو التستر! وما معنى...وما معنى! في الأخير لم يعد ثمة معنى لشيء في وطن لا يعني لنفسه شيء! في وطن اعتاد أن يكون مطية للمرتزقة والفشلة والمغبونين!

عشرة أفراد يعيشون في ملحق جامع بحمام يقع على درج! ستيني يحمل علبة طلاء وفرشاة ثقيلة لا تحترم تقدمه بالسن! وامرأة في شهرها الأخير اعتادت الوقوف في الجولات وأمام نوافذ السيارات علها تحصل على قطعة مال تسد بها جوع مقعد في المنزل مع أطفاله الثمانية! طفلٌ لا يعرف من وطنه إلا ملابسه المتسخة وصراخ عمه الذي يجبره كل يوم للخروج من أجل قيمة القات! وكفيف يفترش الطرقات من أجل بضعة أفلاس، ومقعد يبيع علبة (فاين) على كرسيه الشبه مكسور، وفتاة جميلة تتقاذفها الأفواه والألسن أثناء جولة الشحت اليومية التي تقوم بها، ومستشفيات يدخل فيها المصاب بقطع بسيط في يده ليخرج مقطوع الروح، ومدارس تتفنن في نقل حرفة الغش والكذب بأساليب منهجية، وجامعات ملأى بالكثير من الطامحين الذين ما إن يتخرجوا حتى ينضموا للمستشفيات النفسية أو لأسواق القات...

في السابق كنت أرى الجوع يقطر من أحداق القاطنين في الشوارع بأعمارهم المختلفة، أتأمل قاماتهم النحيلة، وملامحهم الشاحبة تخبرك عن أن آخر وقت تناولوا في الطعام، وابتساماتهم الفاترة جزء يدللك على جنسيتهم، أما الآن فلم أعد أرى تلك الأحداق –رغم جوعها- مجرد ملامح جائعة للطعام، وإنما جائعة لأشياء ثمينة لا أدري متى تدركها حكوماتنا الموقرة، مثل هذه الأحداق جائعة لشيء اسمه الإنسانية....