السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٤٠ مساءً

إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
ياسين الحاج صالح
[email protected]


كان من شأن صدام حسين أن يكون أضحية ممتازة لتأسيس عدالة وشرعية جديدتين في العراق. ولم يكن أنسب من توقيت إعدامه في أول يوم لعيد الأضحى قطيعة مع العراق القديم وتدشينا للعراق الجديد. فالتضحية برئيس (أو ملك أو حاكم ..) يمكن أن تكتسب قيمة تدشينية لعهد من العدل والحرية والمساواة بين مواطنيه، بل تستمد شرعيتها من هذا التدشين، وترتد انقلابا أو ما يقاربه من دونه. ولكان قربانا عظيما تقديم رجل حكم العراق بقسوة فائقة طوال خمس وعشرين عاما، ونال حكمه بأذى عميق قطاعات واسعة من العراقيين في صميم إنسانيتهم ووطنيتهم. ولربما جنح المرء إلى افتراض أن لإعدامه مردودا موحدا العراقيين أو مقللا من انقساماتهم، بالنظر إلى أنه كان مثالا للطاغية المتعسف المهووس بالسلطة المطلقة.
لا شيء من ذلك. فقد ضحي بهذا المعنى القرباني، التأسيسي، لإعدام صدام، على يد طبقة سياسية عراقية رثة، معدومة المخيلة، وفاقدة للشرعية الوطنية بمعنى مضاعف: تابعة للاحتلال وفئوية في آن معا. لقد بدا، بالعكس، أن إعدام صدام في أول أيام عيد الأضحى تصرف ينم عن قلة ذوق في أحسن تأويل له، وعن تحد لمشاعر أكثرية المسلمين في أسوئه، بمن في هؤلاء كثرة لا تكن أي تقدير لصدام ونظامه، وبمن فيهم كثيرون يزدرون كل ما يرمز إليه. وبفضل تلك الطبقة يرجح جدا أن يتحول إعدام صدام من تأسيس للعدالة إلى إعادة تأسيس لروح الثأر والانتقام الحقودين التي كان صدام ذاته رمزا لها. وبدلا من إعدام الطغيان مع الطاغية، تسبب الاحتلال الأميركي وأتباعه المحليون في انتثار الطغيان في المجتمع العراقي، وتكون عدد كبير من الطغاة الصغار والوضعاء، دون أن يكونوا اقل قسوة من صدام ذاته.
لا ريب أن إعدام صدام أمر عادل من وجهة نظر ضحاياه، الوجهة الوحيدة التي تستحق الأخذ بعين الاعتبار. لقد تحقق لأمهات وآباء وأبناء فقدوا أعزائهم على يد أجهزة الطاغية أو غيبتهم سجونه أو تعرضوا للتعذيب والإذلال على يدي جلاوزته..، تحقق لهم قصاص طال انتظاره. بيد أن القصاص هو العدالة الصغيرة، عدالة لا تتأمل في ذاتها ولا تنتج مفهوما للعدل والظلم ولا تؤسس معيارا ضابطا للقيم. إن العدالة للمجرم (وليس للبريء)، والحرية للمختلف (وليس للشبيه)، والمساواة للضعيف (لا للقوي): هذا هو المعيار المؤسس. وأن يكون المجرم هو الحاكم، أي من خان ائتمانه على العدالة والمساواة والحرية لشعبه، هو ما يجعل من منحه العدالة فعلا تأسيسيا.
لم تكن إجراءات التقاضي الهزلية التي أثمرت الحكم على صدام مؤسسة لمعيار ولا حتى منضبطة بمعيار. أما تنفيذ الحكم، وبالخصوص الملابسات التي رافقته (الهتافات لآل البيت ولمقتدى..)، فيرتد حتى دون المعنى القصاصي للعدالة، المعنى الذي يفترض أن من يتولى القصاص هو طرف مستقل عن الطرفين المتقاضيين. إن "عدالة" ينفذها متضررون محتملون من صدام ونظامه، تصرفوا علنا بدلالة القرابة المذهبية لا بدلالة القانون، هي ثأر وليست قصاصا. والقيام بدور طرف ثالث، غير منحاز، هو وظيفة أساسية من وظائف الدولة، هذه التي سطع غيابها وحده في لحظات صدام الأخيرة.
ولعله ما من شيء يثبت الغياب المزدوج لكل من فكرة الدولة والمعنى التأسيسي المحتمل لإعدام صدام أكثر من امتناع القيادة العراقية، المالكي والطالباني تخصيصا بحكم منصبيهما، عن مخاطبة الشعب العراقي يوم تنفيذ الحكم ومحاولة إعطاء معنى القطيعة والتدشين لإعدام الطاغية. متى يمكن لهؤلاء أن يخاطبوا مواطنيهم إن لم يكن في يوم كهذا، صادف كذلك أول أيام عيد الأضحى ونهاية عام بالغ القسوة على البلاد؟ وهل يتعلق الأمر بافتقار ذاتي إلى النباهة، بافتقار إلى الإرادة والتفكير المستقل الذي يحتكره الاحتلال الأميركي، أم ربما بوجدان آثم مشدود إلى روابطه الفئوية ولم يهتد إلى أي معنى وطني عراقي عام لشنق الدكتاتور؟ لقد كان من شأن مخاطبة القادة العراقيين لشعبهم بعد تنفيذ الحكم أن يكون فرصة لإظهار البعد السياسي والمستقبلي لإعدام الطاغية، بالخصوص لكون مقدماته القانونية لم تكن في منأى عن الطعن. وإنما بفضل مشترك لقيادات كهذه وللمحتل الأميركي، انقلب طاغية غليظ القلب والعقل، إلى رمز عربي وإسلامي.
كذلك كانت محاكمة صدام وأركان حكمه فرصة للتثقيف السياسي والقانوني والأخلاقي للشعب العراقي، لو توفر للقائمين عليها شيء من الحس التاريخي الذين ينتظره المرء من عهد جديد. كانت فرصة كي يتعرف الناس إلى رواية مفصلة لسير الضحايا وصورهم، إلى حكاياتهم الفريدة دوما وآلامهم، فرصة لمعرفة "الحقيقة" عما جرى في وطنهم ولمواطنيهم. بيد أن هذا المعنى كان يقتضي من النخب العراقية، السياسية والثقافية، أن تعتبر المحاكمة فعل تطهر وطني من فظائع عهد صدام وفعل توبة لها هي ذاتها من قسط من المسؤولية المعنوية عن تلك الفظائع. فالطاغية ليس نبتا شيطانيا غريبا على مجتمع العراق وثقافته وتاريخه (مجتمعاتنا وثقافتنا العربية وتاريخنا...). وهو ما كان يقتضي من "النخب تلك درجة أكبر من التواضع، واستعدادا أكبر للتضحية بنهج أبلسة النظام الذي أدمنت عليه وأرست عليه هويتها ودورها العام، وبالخصوص التخلي عن الوجه الآخر، التبريري، لهذا النهج التشريري المطلق: نحن أخيار، أطهار، منزهون! الواقع أنها قلما تحلت بما يداني هذه الصفات.
وهذا، في المناسبة، أمر مستقبلي في غير بلد عربي. صحيح أن الطغاة غير منتخبين من شعوبهم، صحيح أنهم حكموا بالموت والتعذيب والسجون، لكن صحيح أيضا أنهم منّا ولم ينزلوا من السماء. أمر مستقبلي كذلك أن أولئك الذين تأذوا مباشرة وكثيرا من الدكتاتورية ليسوا هم المؤهلين لقيادة تحول نحو الديمقراطية أو وضع حدا للاستبداد التعسفي. هذا حكم قاس جدا على أناس عانوا أكثر من غيرهم قسوة الاستبداد. لكن تجاربهم الراضة مع الاستبداد غرست فيهم ضربا من التثبت المفرط على وقائع السلطة، فلم يبق في حيز تفكيرهم غير نحن والدكتاتور: إما نحن أو هو؛ ما يضع المجتمع والتاريخ والبيئة الإقليمية والدولية بين قوسين عمليا.
لا ينبغي أن ننتظر تكرار المحنة العراقية في بلاد أخرى كي نختبر منذ الآن نهجا في التفكير والنشاط العام أكثر حفولا بالأصول الاجتماعية والثقافية للاستبداد (أكثر تفطنا كذلك إلى الإشراطات الإقليمية والدولية لاستبدادنا، سواء تمثلت هذه في دعم مباشر للدكتاتوريات بذريعة الاستقرار، أو بتوفير مناخات غير مناسبة للتوازن النفسي والتفكير العقلاني عبر دعم استثنائي للاستثناء الإسرائيلي أو عبر هيمنة مباشرة على المجال العربي تثير ردود أفعال عنيفة، أو عبر تشرير الإسلام).
في النهاية، ثمة شيء مشؤوم في إهدار البعد التضحوي لإعدام صدام: تأجيل تقديم القربان. ما قد يعني تمادي المأساة العراقية دون وعد بتمخض قريب لها عن معنى أكثر تحريرا وتوحيدا للعراقيين.