الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٤٥ صباحاً

معنى أن تبقى الراية مرفوعة في تونس

فهمي هويدي
الثلاثاء ، ٣٠ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ٠١:٣٠ مساءً
حين يحلف الرئيس التونسي المنتخب باجي قايد السبسي اليمين الدستورية أمام البرلمان اليوم، فسوف يستقبل كثيرون الخبر باعتباره إعلانا عن نهاية الثورة وطي صفحة الربيع العربي هناك. وربما خطر لبعضهم أن تونس بصدد العودة إلى حكم الدستوريين الذي أسقطته الثورة في عام 2011.

وليس ذلك مجرد تخمين أو استنتاج لأن تلك رسالة جرى بثها وتعميمها على الكافة منذ فاز حزب "نداء تونس" بأغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية التي جرت في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وهو ما أنعش رعاة الثورة المضادة، ورفع معنويات أركانها وعناصرها في مختلف أنحاء العالم العربي، إلا أن تلك الرسالة عبرت عما تمناه هؤلاء بأكثر مما عبرت عن القراءة الصحيحة لخرائط الواقع التونسي وحقيقة المتغيرات التي طرأت عليه بعد الثورة.

ما تمناه هؤلاء لم يكن كله وهما، لأنه استند إلى مسوغات لا تخلو من صحة. فالرئيس التونسي الجديد (السبسي) قادم من حقبة الرئيسين بورقيبة وبن علي التي انقلبت عليها الثورة. وشرعيته مستمدة من تاريخ ما بعد الاستقلال (عام 1956) وأغلب الذين صوتوا له وماكينته الحزبية والإعلامية من عناصر الدستوريين والتجمعيين وهما حزبا الرئيسين سابقي الذكر، وقد هزم الرجل في الانتخابات الرئاسية منافسه الدكتور منصف المرزوقي الذي ينتسب إلى شرعية الثورة.
صحيح أيضا أن حزب "نداء تونس" أزاح حركة النهضة المنسوبة إلى الإسلام السياسي من رأس قائمة القوى الممثلة في البرلمان. كما أن ممثلي حزب النداء الذين وصل عددهم إلى 90 نائبا أغلبهم من الدستوريين (60 نائبا)، في حين أن الباقين يتوزعون بين اليساريين وغير المصنفين. إلا أن تقييم المشهد التونسي بناء على تلك المعلومات يظل قاصرا، لأنه يعني الاكتفاء بالنظر إلى المشهد من زاوية واحدة وتجاهل زواياه الأخرى.

(2)
حين تجاوزت تونس الفترة الانتقالية وعبرتها بأمان، فإن ذلك كان أهم إنجاز سمح باستمرار الثورة وضمن للربيع العربي أجواءه العطرة. إذ خلال تلك الفترة حدث أمران مهمان للغاية، الأول أن المجتمع حضر في المشهد السياسي من خلال مؤسساته الفاعلة التي أصبحت شريكة في القرارات السياسية وقادرة على منازلة السلطة وتحديها، الأمر الثاني أن الصراع والتجاذب ظل مدنيا طول الوقت، في حين ظلت القوات المسلحة خارج المشهد وليست طرفا فيه.


حين تم اغتيال اثنين من قادة المعارضة (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) فإن ذلك أغضب الشارع التونسي وأدى إلى إسقاط حكومتين متتاليتين، وانتهى بخروج حركة النهضة من السلطة وتشكيل حكومة تكنوقراط من خارج الأحزاب.

وحين هاجم نفر من الإرهابيين المسلحين مخيما للجنود في جبل الشعانبي في محافظة القصرين المحاذية للحدود الجزائرية، وأدى ذلك إلى قتل 15 عسكريا من التونسيين، فإن ذلك أحدث صدمة لدى الرأي العام، لم تعالجها الحكومة بتصريحات وإجراءات تراوحت بين إدانة الإرهاب وتشديد الحملة على عناصره وإلقاء القبض على أعداد من المشتبه فيهم، وإنما طرحت مسألة المسؤولية الأدبية والسياسية، الأمر الذي أدى إلى استقالة قائد الجيش اللواء محمد صالح الحامدي من منصبه، رغم أنه كان قد أمضى سنة واحدة في منصبه، وكان بوسعه أن يتذرع بأنه حديث العهد بالمنصب، ولا يتحمل مسؤولية التقصير في حماية الجنود المرابطين على الحدود. إلا أن اسقالته كانت إعمالا لقيمة غائبة فرضت عليه أن يتحمل المسؤولية عن مقتل 15 من جنود الجيش الذي يتولى قيادته، رغم أنه لم يكن مضطرا لذلك من الناحية القانونية.

خلال الفترة الانتقالية لم تكن السلطة هي الفاعل الوحيد في الساحة السياسية، حتى الرئيس المرزوقي ذاته كان دوره هامشيا، ولكن الفاعل الأول ظل متمثلا في القوى المدنية التي ظلت راعية للحوار وضابطة لحركة الشارع. وقد تمثلت في الرباعي المتمثل في اتحاد الشغل واتحاد رجال الأعمال وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان. وظل التوافق بين تلك القوى الأربع مصدرا للكثير من القرارات التي اتخذت بل والقوانين التي صدرت وأهمها القانون الانتخابي.
في هذا الصدد فإن الدور الذي لعبته حركة النهضة في تحقيق التوافق الوطني والحفاظ على السلم الأهلي كان له إسهامه الكبير في إنجاح المرحلة الانتقالية. إذ رغم تمتعها بالأغلبية مع "الترويكا" في الجمعية التأسيسية، الأمر الذي كان يمكنها من التحكم في توجيه دفة الفعل السياسي بما يكرس نفوذها ويخدم مصالحها، فإنها مارست طول الوقت مرونة مشهودة أعطت الأولوية للوفاق الوطني وحماية الديمقراطية، ومن ثم الحفاظ على مسيرة الثورة.

الإنجاز الكبير الذي تحقق خلال المرحلة الانتقالية تمثل في المصادقة على الدستور الجديد الذي وافقت عليه أغلب القوى السياسية في الجمعية التأسيسية وخارجها، وتكمن أهمية ذلك الدستور في أنه ضمن أبرز الحقوق والحريات، وكرس الفصل بين السلطات، وحصّن المجتمع من تغول السلطة وطغيانها.

(3)
ما لا ينتبه إليه كثيرون أن الدستور الجديد أضعف سلطة رئيس الدولة، في حين قوى من الحكومة، وكما قال لي أحد الخبراء الذين شاركوا في وضعه، فإن المقارنة بين نفوذ كل منهما تشير إلى أن الرئيس أصبح يملك 20% من السلطات في حين تستحوذ الحكومة على 80% منها، ذلك أن الرئيس طبقا للدستور لا يستطيع أن يتخذ قرارا دون استشارة رئيس الحكومة.

بل إن المادة 77 منه حصرت اختصاصات الرئيس في "ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية"، لكنها نصت على أن ذلك يتم "بعد استشارة رئيس الحكومة". وسلطات الرئيس في التعيين تشمل مفتى الجمهورية وموظفي رئاسة الجمهورية فقط. أما التعيينات المتعلقة بالوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية فإنها تتم بعد استشارة رئيس الحكومة.

أما تعيين محافظ البنك المركزي فإنه يتم باقتراح رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لمجلس النواب (المادة 78)، ولرئيس الجمهورية أن يعلن الطوارئ في حالة الخطر الداهم، لكن ذلك مشروط باستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإخطار رئيس المحكمة الدستورية (المادة 80).

في كل الأحوال فإن رئيس الحكومة يظل شريكا في ضبط السياسة العامة للدولة (المادة 91) ويده مطلقة بعد ذلك في تشكيل الوزارة وإنشاء الوزارات، إلا أنه مطالب بالتشاور مع رئيس الجمهورية فقط بالنسبة لوزارتي الخارجية والدفاع (المادة 89)، في حين أن الرئيس لا علاقة له بأية تعيينات أخرى في الدولة، بما في ذلك إنشاء الوزارات أو إلغاؤها.
توسيع صلاحيات رئيس الحكومة لا يعني تركيز السلطة التنفيذية في يديه، لأن الدستور خصص بابه السادس لإنشاء مجموعة من الهيئات المستقلة التي ينتخب مجلس النواب أعضاءها. ولا سلطان عليها لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة. واحدة لإجراء الانتخابات والاستفتاءات، والثانية لضمان حرية التعبير والإعلام، والثالثة للدفاع عن حقوق الإنسان، والرابعة للتنمية المستدامة، أما الخامسة فهي مختصة بمكافحة الفساد (المواد من 125 إلى 130).

(4)
أهم ما في الدستور أنه حصن المجتمع من تغول السلطة، وأشركه في إدارة البلد، بحيث أصبح الجميع شركاء في حمل المسؤولية، الأمر الذي طوى صفحة الزعيم الأوحد والحزب الواحد والإدارة المتسلطة الممسكة بكل الخيوط. وما كان لكل ذلك أن يحدث لولا رياح الربيع العربي التي رفعت صوت المجتمع عاليا، وأشهرت رغبته في التغيير والإصلاح دفاعا عن مصيره.

كان مفهوما في ظل هذه الظروف المستجدة أن تسفر الانتخابات التشريعية عن تشكيل مجلس للنواب ضم أبرز القوى السياسية الفاعلة بمختلف اتجاهاتها، ويمكن اعتباره أقوى مجلس تشريعي في تاريخ تونس، وربما في العالم العربي المعاصر، ولم يكن التنوع فيه مقصورا على تعدد القوى السياسية فحسب، وإنما شمل التخصصات أيضا. إذ ذكرت إحدى الدراسات أنه ضم 36 محاميا و30 جامعيا و35 أستاذا في التعليم و26 من العمال و27 من رجال الأعمال و16 مهندسا و11 طبيبا و12 موظفا حكوميا.. إلخ.

هذا المعمار الجديد في تونس وفي العالم العربي بأسره، وضع الأساس لجمهورية ديمقراطية حقيقية تكفل سلطة المجتمع وتحمي كرامة المواطن في سياق حفظها للحقوق والحريات، وتقبل بالتداول السلمي للسلطة. إن شئت فقل إن ذلك المعمار يؤسس للاستثناء التونسي ويحقق للتوانسة ما فشلت ثورات أخرى في تحقيقه في العالم العربي.
لو قال قائل إنني فصلت في عرض النصف الملآن من الكوب لما جانبه الصواب. وقد دفعني إلى ذلك أنني لاحظت تسابق بعض الأبواق الإعلامية وأنظمة الثورة المضادة إلى اعتبار أن ما جرى في تونس نهاية للربيع العربي، ثم إنني دهشت للخفة التي اتسمت بها قراءة المشهد وحصره في حدود التهليل لتراجع حظوظ حركة النهضة في مجلس النواب، بحيث أصبحت تحتل المرتبة الثانية وليست الأولى في عدد الأعضاء، ناسين أن ذلك التراجع يبقي على النهضة كبديل مطروح أمام الشعب التونسي في أي انتخابات قادمة.

أدري أن ثمة أخطاء وقعت فيها حكومتا النهضة في المرحلة الانتقالية، وأن خطر الإرهاب لا يزال يهدد تونس، وأن الأزمة الاقتصادية تمسك بخناق البلد إلى حد مؤرق. وأفهم أن ثمة إحباطا في أوساط الشباب الذين لم تحقق لهم الثورة طموحاتهم. ولا أستبعد أن يحاول الدستوريون إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، كما أنني أسمع الكثير عن ضغوط المال الخليجي الذى صار نشطا في مجال الحرب على التاريخ وتشجيع الثورة المضادة، إلى غير ذلك مما قد يبدو ضمن مكونات النصف الفارغ من الكوب المسكون بأسباب القلق ومسوغاته.
إلا أنني أذكر الجميع بأن عمر الثورة التونسية لم يتجاوز أربع سنوات لا غير، وأننا لا نعرف في التاريخ ثورة ولدت كاملة الأوصاف، بقدر ما نعرف أن ما أنجزته الثورة التونسية حتى الآن يعد نجاحا لم تبلغه ثورة أخرى في المحيط العربي أو محيط الجوار. وفي كل الأحوال فإن أكثر ما همني في الأمر أن راية الربيع العربي لا تزال مرفوعة ترفرف في فضاء تونس معلنة عن بزوغ الفجر الجديد، الذي صرنا نرى بأعيننا الحشود التي تحشد لحصاره وإجهاض أحلامه.

عن الجزيرة نت