2014/11/16
«آخر العساكر» للباحث البريطاني محمد صدّيق سيدون: حكاية اليمنيين في بريطانيا: عنصرية وشجاعة وحضور
أحيت بريطانيا ومعها الدول الأوروبية المئوية الأولى على بداية الحرب العالمية الأولى التي انطلقت شرارتها في عام 1914، وكان في مركز الإحتفال بحر من أزهار الدحنون الاصطناعية التي زرعت حول برج لندن التاريخي خالقة للمشاهد حسا بأنه يراقب بحرا من الدماء. وحظي العرض بملايين من المشاهدين البريطانيين الذين اندفعوا لتذكر الحرب وضحاياها. وفي الصورة الخلفية لقصة الحرب العالمية الأولى قصص ملايين من أبناء المستعمرات التابعة في حينه للتاج البريطاني الذين اندفعوا أو دفعوا للدفاع عنه وماتـــوا في الـصــحارى والجبال، وفي الأنهار والبحار.
 
فقد شارك من الهند وحدها في الجهود الحربية البريطانية 1.3 مليون مجند كانت نسبة كبيرة منهم مسلمين، وشارك البحارة اليمنيون في الحرب ومات الكثيرون منهم، ذلك أن ميناء عدن كان تابعا للتاج البريطاني منذ عام 1839 حيث عمل اليمنيون القادمون من أعالي اليمن على متن السفن التجارية واستخدموا لتلقيم أفران السفن التجارية الفحم الحجري، وهي مهمة كان يطلق عليها «عمل الحمار» نظرا لصعوبتها وخطرها، حيث كان البحار اليمني يقضي الساعات أمام محرقة السفينة وهو يلقمها بالفحم. وافترض قادة السفن التجارية أن اليمني القادم من المناطق الحارة لديه القدرة على تحمل حر الفرن أكثر من غيره الأوروبي الأبيض في نظرة عنصرية رافقت رحلة اليمني وهو يبني وجوده على الشواطئ اليمنية. ورغم المعاملة السيئة والتعذيب الذي تعرض له اليمنيون على متن السفن البريطانية والأجر المتدني مقارنة مع العامل الأوروبي، إلا أن قصصهم تشير لدرجة عالية من الولاء والشجاعة التي تميز بها اليمني، خاصة في الحرب العالمية الأولى حيث غرق في البحر منهم الآلاف، ومن كارديف وحدها ابتلعت المياه 1000 يمني.
 
ففي مذكرات كتبها الكابتن جون جونز تحدث فيها عن شجاعة يمني اسمه محمد علي، كرمه الملك فيما بعد بميدالية الإمبراطورية اليمنية، وقال «بعد تيقني أن السفينة غارقة.. ظهر على جانبي من الجسر، واحد من العرب.. وقال «ساظل معك، سيدي».. ورفض النزول إلى القارب مع بقية طاقم السفينة، وقمت أنا وهو بإنقاذ اثنين من طاقم السفينة أصيبا بجراح بالغة.. وفي تقريري للسلطات حول الكارثة.. أثنيت على العربي الصغير بما يستحق من الثناء، وكنت سعيدا عندما اكتشفت أن الملك كافأه وقدم له ميدالية الإمبراطورية البريطانية». قصة من مئات القصص المبعثرة في الكتب والوثائق البريطانية عن البحارة اليمنيين الذين بدأوا يصلون إلى بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، ومع افتتاح قناة السويس في عام 1869 زادت وتيرة حضورهم.
 
أقدم جالية
 
واليوم يفخر اليمنيون بأنهم أقدم جالية/ أقلية أقامت لها جذورا وثقافة ومؤسسات من بين الأقليات المعروفة في الجزائر البريطانية. وقصة اليمنيين مثيرة وأثارت إنتباه البحث الأكاديمي، حيث صدرت العديد من الكتب عن تواريخهم وموجات الهجرة التي ظلت مستمرة حتى السبعينيات من القرن الماضي. والمشكلة في البحث التاريخي في جذور اليمنيين هي ربط بعض الكتابات وجودهم بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أن وجودهم يسبق هذه الحرب، وكما تظهر شهادة جونز فقد شارك اليمنيون في الحرب العالمية الأولى، وكما يقول هوميان أنصاري، الباحث في تاريخ المسلمين البريطانيين، فقد لعب اليمنيون دورا في تحذير السكان من الطائرات الألمانية وأنقذوا أرواح العديدين. والباحث في تاريخ اليمنيين في بريطانيا يعثر على كم كبير من الكتب والأفلام والصور والشهادات الشفوية المحفوظة في المتاحف المحلية في ساوث شلدز، وكارديف ومانشستر وليفربول وغيرها من المدن الساحلية التي نزل فيها أولا البحارة اليمنيون.
 
ومنذ صدور كتاب «العرب في المنفى» (1992) للباحث ألفريد هاليدي، صدرت عدة كتب تحاول البحث في جذور الأقلية اليمنية، ومن أهم الكتب كتاب ريتشارد لوليس «من تعز إلى تنسايد: مجتمع عربي في جنوب- شرق إنكلترا» (1995)، وخصص هوميان أنصاري في كتابه «كافر بيننا» عن تاريخ المسلمين في بريطانيا منذ بداية القرن التاسع عشر حتى العصر الحالي، فصلا مهما عن اليمنيين وتاريخهم، وغير ذلك من الكتب. وقبل سنوات حظي معرض لشهادات آخر البحارة اليمنيين «آخر رجال القاموس» باهتمام واحتفاء وعرض في عدة مدن بريطانية، ونقل إلى اليمن. ومن آخر الكتب التي صدرت في هذا الاتجاه كتاب الباحث المسلم محمد صديق سيدون، تحت عنوان «آخر العساكر/ البحارة: اليمنيون في بريطانيا 1836 -2012» وهو كتاب مهم من ناحــية رصده لتاريخ اليمنيين في أكثر من قرن ونصف.
 
ويرفض سيدون ربط هجرة اليمنيين بنهاية القرن التاسع عشر ويرى أنها بدأت في منتصف القرن التاسع عشر. فبريطانيا وإن لم تسيطر على ميناء عدن إلا في عام 1839 غير أن السفن التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية كانت تتوقف عند سواحل اليمن منذ عام 1609. وبدأ اهتمام الشركة بعدن في عام 1829 عندما فكرت بتحويل الميناء الصغير إلى محطة تزود بالوقود، تنقل عبره المواد الخام من آسيا وأفريقيا والمنتجات البريطانية للمستعمرات. وفي عام 1835 وصل الكابتن هينز، أحد موظفي شركة الهند الشرقية إلى عدن للعمل على الفكرة. وبعدها بدأت السفن التجارية التي كانت تعمل على البخار بالتوقف في ميناء عدن. وما هو مؤكد أن اليمنيين الذي خبروا البحر منذ أقدم الأزمنة بدأوا بالعمل والسفر على متن البواخر البريطانية. ومن هنا يأخذنا سيدون في رحلة تاريخية لصعود عدن وضمها للنظام العالمي حيث بدأ الميناء يكبر على حساب ميناء المخا الذي كانت معظم القهوة تصدر منه.
 
في العصر الفيكتوري
 
ومع تحويل البريطانيين ميناء عدن في عام 1853 كميناء مفتوح/حر بدأت السفن البخارية التي تحمل كل الأعلام بالرسو عليه، وبدأ سكان أعالي الجبال في اليمن بالتدفق عليه بحثا عن عمل، ومن هنا بدأ نظام «المقدم» الذي كان يوفر العمالة الرخيصة للسفن، وعبر هذا النظام بدأ اليمنيون يتسربون للشواطئ البريطانية، لكن سيدون يقدم معلومات غنية عن معاناة اليمنيين في بريطانيا الفيكتورية ويرصد ما كتبه مبشر بريطاني اسمه جوزيف سولتر كان يستهدف المهاجرين ويساعد البحارة اليمنيين وغيرهم ممن تركوا بدون مساعدة يهيمون على وجوههم واضطر بعضهم للتسول من أجل البقاء. ورصدت كتابات سولتر الكثير من مظاهر حياة البحارة اليمنيين وغيرهم، الإحتفالات الدينية وتقاليد الجنائز وأناشيدهم. ويقدم سولتر قصصا مروعة عن الحرمان والتمييز الذي عاناه البحارة على يد قادة السفن والطاقم العامل عليها، ويصور كيف تدخل مرة من أجل انقاذ حياة عدد من البحارة عاقبهم قبطان وكيف ماتوا جراء تعليقهم على صواري السفينة.
 
وتشير دراسة سيدون إلى أن حضور «العساكر» الملونين – عربا وهنودا وملايويين وأفارقة على الشواطئ البريطانية كان دائما محلا للجدل الشعبي والحكومي، وكان البحارة الباحثون عن عمل موضوع عدد كبير من القيود، فكما يقول سيدون وغيره من الباحثين فقد كوفئ اليمنيون على بطولاتهم بمستويات عالية من العنصرية والإحتقار، فكمثال على الصورة ما ورد في مذكرات جون جونز ويليامز التي صدرت عام 1983: «أكثر ما أكره رؤيته وجوههم الوسخة وطرابيشهم الحمراء، وربما قاتل أجدادي الأتراك والعرب وربما تسرب حقدهم إلى دمي». ويقدم سيدون الكثير من الأمثلة حول رؤية الإنكليز للعرب، خاصة عندما اندلعت أحداث الشغب التي تعرف في التواريخ المحلية لكارديف وساوث شلدز وليفربول وغيرها «الشغب العربي» (1919) حيث اندلعت مظاهرات بعد رفض واحد من اتحادات العمال في مرافئ السفن الإعتراف بحقوق العمال اليمنيين، وهي الأحداث التي جاءت على خلفية الوضع الاقتصادي والجمود. وكما هي العادة يقول سيدون تحول الضحايا إلى معتدين، وتمت معاقبة عدد من اليمنيين. وقصة «الشغب» العربي كانت موضوعا لمسرحية شهيرة كتبها بيتر موريتمر «شغب» (2005) وإن كانت عن شغب آخر حدث في عام 1930 في هذه الفترة التي شهدت كسادا اقتصاديا، وأججت بشكل كبير الدوافع العنصرية لدى السكان المحليين.
 
ومن هنا ظلت علاقة البحارة بالمحيط بهم محفوفة بالشكوك وأي تحول مطلبي بالحقوق كان يقابل بالرفض وتشديد القوانين، رغم أن اليمنيين على خلاف البقية كانوا يتبعون التاج البريطاني ويحملون الجنسية. ويشير سيدون لنظرة المجتمع المحلي للعلاقات العاطفية والزيجات المختلطة، فالمرأة التي تتزوج يمنيا كان ينظر إليها نظرة دونية وأنها من طبقة سيئات السمعة، وهو جزء من النظرة الفوقية لليمني والملون بأنه لا يستحق المساواة والمعاملة الحسنة.
 
المؤسسات
 
أسهم في بناء التجمعات اليمنية على الساحل، بناء عدد من المؤسسات التي كانت تقدم الخدمة للبحارة وتعتني باحتياجاتهم وتقوم بالوساطة بينهم وبين السلطات. ولهذا كانت اللغة ضرورية في من يلعب دور الوسيط. ومن هنا أقام اليمنيون ما يعرف بالنزل أو باللهجة اليمنية المهجنة «البردون» وكان نزلا ينزل فيه البحارة الذين ينتظرون الرحيل أو الحصول على عمل، وكانت البردونات تتراوح من ناحية الحجم ، فمنها من كان يستوعب اعدادا قليلة وأخرى كانت تستوعب ما بين 60-70 شخصا، حيث كان البحارة ينامون فيها ويلعبون الورق والدومينو ويتناولون الطعام معا. وكان صاحب البردون يوفر للنزلاء مكانا للصلاة. ونظرا لإنعزال البحارة عن الواقع المحلي جاءت المقاهي العربية لتقدم الخدمات للبحارة ولتقدم لهم مساحة لقضاء وقتهم وهم ينتظرون العثور على وظيفة، وأصبحت المقاهي بمثابة النوادي الاجتماعية، تقدم القهوة والطعام، ومن المقاهي الشهيرة «مقهى عبدو» الذي انشئ في الأربعينيات من القرن الماضي واشتهر بطعامه الشهي. وعلى خلاف النزل فقد كانت المقاهي تخدم اليمنيين وغيرهم. وكان روادها يناقشون السياسة في بلادهم ويلعبون الورق.
 
ومن المعالم الأخرى المهمة في تاريخ اليمنيين وصول الشيخ عبد الحكيمي إلى كارديف عام 1936 وافتتح الزاوية الإسلامية العلوية وأقام لها فروعا في مدينة هال وليفربول. وكان الحكيمي الذي عمل في التجارة والتعليم في مارسيل الفرنسية وروتردام الهولندية قد تلقى الطريقة عن الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي، وانتشرت الطريقة بين اليمنيين في اليمن. وتمثل تجربة الحكيمي وجهوده في تعليم أبناء الجالية ومأسسته للتعليم حجز زاوية، حيث واصل تلامذته خاصة الشيخ سعيد حسن إسماعيل التعليم بعد رحيل الحكيمي وانخراطه في السياسة اليمنية. ويخصص سيدون فصولا لقراءة أثر وتجربة الحكيمي وإسماعيل.
 
ما يقدمه سيدون رحلة ثرية في تاريخ اليمنيين، وقصص نجاح وألم ومعاناة وطموح جيل جديد لا يزال يواصل الرحلة، وبناء هوية أنكلو- يمنية، هوية لا تتنازل عن محتواها الإسلامي وتقاليدها اليمنية ولا تنسى علاقتها وواجبها نحو الواقع العام. في «آخر العساكر» قصص عائلات يمنية بريطانية تمتد على قرن أو يزيد مثل عائلة حسن الحبابي. فالبحار السابق بنى مملكة عقارية في ساوث شلدز وأٌقام عددا من البردونات، وشركة تجارية «سبأ» وفي عام 1929 قدم طلبا لمجلس ساوث شلدز المحلي للحصول على رخصة تسيير حافلات بين ساوث شلدز ولندن. وهي واحدة من قصص النجاح ولكنها لم تكن بدون مفاجآت ونهايات حزينة..
 
Mohammad Siddique Seddon: The Last of the Lascars: Yemeni Muslims in Britain, 1836-2012
Kube Academic/ Markfield, 2014
328 pages.

* القدس العربي
تم طباعة هذه الخبر من موقع يمن برس https://yemen-press.net - رابط الخبر: https://yemen-press.net/news37875.html