السبت ، ٢٧ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٤٠ مساءً

السلفية والعقلانية من النقيض إلى النقيض

إبراهيم القيسي
السبت ، ٢٥ يناير ٢٠١٤ الساعة ١١:٢٠ صباحاً
بين السلفية والعقلانية وحشة القلوب وتنافر الطبع وتضاد التلقي ولدت هذه العوامل بين الفريقين مسافات تاريخية وقطيعة اجتماعية وتباينات أيدلوجية وأشعلت الصراع الفكري وعملت على سد طرق الالتقاء ونسفت جسور التواصل فمضت ألسنتها تبعث سحب الريبة والشك وتهدم أبراج الثقة بين الطائفتين فبينما السلفية توغل في التعصب للقديم وتبني له قداسة مطلقة وتقف عند معالمه الفكرية فتقوم بتدويره وإعادته في صورة شروح وحواش ومتون فالعقلانية عملت على عكس ذلك تماما فقد عملت ردات أفعال معاكسة وتبنت الثورة الشاملة على السلفية ومنهجها الفكري ذو الثقافة الكلاسيكية القديمة فهي تعلن القطيعة السافرة مع كلما هو قديم متأثرة بالمذهب الحداثي ذو النزعة العقلانية المتكئ على الروح التحررية ذات الأبعاد الراديكالية والمنبثقة من الفكر الليبرالي الغربي فهي تقدس الجديد وتؤلهه وتنظر للقديم نظرة دونية مبنية على الاحتقار والشماتة فكلا المذهبين على طرفي نقيض يعتريهما الشك وانفراط عقد الثقة فكلاهما قد جانب الصواب وجانف الحقيقة فليس هناك قديم لا يتجدد ولا جديد منقطع عن أصوله الثقافية فالأمم الغربية قد تعصبت كثيرا من حيث تمسكها بلغتها اللاتينية وثقافاتها الفلكلورية المنحدرة من الأصول اليونانية الساحقة و أمة لا تنطلق ثقافتها التجديدية من أصولها التراكمية فأقل شيء يقال عنها أنها أمة ذات ثقافة هجينة فلا يعتد بها بين الثقافات العالمية العريقة .

وفي حال التصالح بين المذهبين يجب العمل على أسس فكرية يكون فيها مد جسور التواصل المتآزرة لتتشابك مع قواطع القديم والجديد في صورة تمثل نسيجا فكريا له بصماته الخاصة المنطلقة من مضمون تراثنا الثقافي لكن يحمل صفات مولود جديد تظهر عليه علامات النجابة والحداثة والجدة يتكئ على القديم من غير جمود وينظر للجديد من غير انقطاع عن الماضي ويستفيد من تجارب الآخرين من غير تبعية أو شذوذ ولا يتنكر لثوابتنا الدينية وينظر للحياة على أصول التغير والثبات فهناك الثابت قطعي الدلالة وهناك المتغير ظني الدلالة إضافة إلى باب المباح وهو باب يمتاز بالرحابة والاتساع متاح للأمة أن تستحدث فيه ما يناسب حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبهذا لا يمكن أن تتعارض أمور الإباحة مع القطعيات مادامت في إطار المصالح المرسلة التي تقوم عليها حياة الناس المعيشية لعمارة الأرض وبناء شئون الحياة فالمسألة في ضمن هذا الإطار لا مشكلة فيها غير أن الأهواء هي التي تصنع الحواجز والجسور نتيجة التعصبات المذهبية والفكرية ذات الأيدلوجيات المختلفة التي تغذي التعصب والتمرد والرعونة المتولدة من الإعجاب بالرأي الخارج عن نطاق المنهجية والاعتراف بالآخر .

فالثورة التجديدية مطلب فكري وضرورة عصرية وواقعية تحتاج إلى أسس منظمة ومبادئ ذات روح مرنة لاتجافي القديم ولا تقدس الجديد توازن بين الثوابت والمتغيرات وتقف عند قضايا الفكر المعاصر فتخضعه لآلية بحثية تستنبط في محيطه الأحكام وتقدم الرؤى على ضوء التأصيل المستمد من النصوص الشرعية من حيث قطعية الثبوت والدلالة أو ظنية الثبوت والدلالة مع خضوعه للمجال الذي يتم تنزيله فيه تحليلا وتحريما وكراهة وإباحة وتحاول استشراف المستقبل على ضوء تراكمية الماضي وتستخلص الدروس والعبر منفذة إلى أعماق الحياة حيث تبني فكرا متحدا ينمو مع ثوابت الأمة وأخلاقياتها في إطار الفكر الإسلامي ذو الصفات العربية الخالصة ينبثق من فلسفتها الفكرية ويحمل بصماتها الدلالية ويستفيد من تجارب الآخرين تحت محور قيادتها بعيدا عن التبعية والذوبان في ثقافة الآخر حيث يصهر كل تجربة ناجحة في بوتقته ويضيف إليها معالم شخصيته الفذة وإبداعاته القديرة ويظهر بتميز على مجابهة الغزو الثقافي ويصد هجومه الكاسح بسهام المبادئ الفكرية الأصيلة المنبثقة من المرجعية العربية الإسلامية التي تحمي عرينه من كل استهداف خارجي يعمل على تشويهه أو تمييعه في ظل معطياته التجديدية وعلى ضوء هذه الرؤى التأصيلية يستطيع إنتاج نظريات واقعية تستجيب لمتطلبات الواقع العربي وتعالج مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية وتبني أسسا أيدلوجية لبناء علاقات وطيدة ينتج من مضامينها الثقة ومد جسور التواصل لوحدة فكرية عربية إسلامية تؤطر لمستقبل الوحدة السياسية الشاملة دون أجندة فكرية أو مؤثرات خارجية تمت إلى هذا الفريق أو ذاك .

فكلا المذهبين يصبان في نفق التقليد فالسلفية تتعصب للقديم وتقف عند ثروته الاجتهادية بانبهار وتحاول نقله بحرفية من غير دراسة جادة تخضعه لمتطلبات العصر ومستجداته وتقف أمام النصوص الشرعية بتهيب وارتجاف وتمسك عن الدخول إلى عالم النص الدلالي وتحجم عن استكشافه وفض مكنونه لتحصد الثمار اليانعة في إطار الدراسة الجادة القائمة على الاجتهاد وبذل الوسع في تمحيص الآراء واختيار الأنسب ليجيب عن متطلبات الحياة وكذلك العقلانية الجديدة منبهرة بإنجازات الغرب الفكرية فهي متأثرة بالمذاهب الغربية من بنيوية وتفكيك وتاريخانية وتنقل آراء المستشرقين ومن سار في ركابهم من المفكرين العرب دون تمحيص أو إعادة نظر فهي لا تقل جمودا وتقليدا عن السلفية بل قد تجنت على الفكر الإسلامي لحساب الفكر الليبرالي .